إميل أمين يكتب لموقع أبونا: عن الفاتيكان وقضايا الشرق الأوسط
إميل أمين يكتب لموقع أبونا: عن الفاتيكان وقضايا الشرق الأوسط | Abouna
وسط هدير عواصف المنطقة، القائمة منها والقادمة، لم يتلفت الكثيرون إلى تلك الرسالة الخاصة والمتميزة التي أرسلها الحبر الأعظم البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، إلى الزميلة “قناة العربية”، مع حلول عيد الفطر المبارك، قبل نحو أسبوع، وفيها عَبَّر عن وصله وتواصله مع منطقة الشرق الأوسط التي “يحملها في قلبه” على حدّ تعبيره.
الرسالة قطعًا هي فريدة من نوعها، ذلك أنه من النادر جدًّا أن يبعث بابا الفاتيكان بمثلها لأي وسيلة إعلامية، ويمكن تفسيرها بدون تهوين أو تهويل، على أنها نوع من أنواع التقدير لإعلام المملكة العربية ودبلوماسيّتها خصيصًا الساعية لتحقيق الاستقرار والسلام، في منطقة هائجة مائجة قلقة نهارًا، أَرِقة ليلاً.
في الرسالة المذكورة نجد فرنسيس، الرجل المحبوب من العالم الإسلامي، والذي أظهر في حَبْريّته وعبر نحو عشر سنوات وأزيد قليلاً، رغبةً صادقة في بناء الجسور الإنسانية والوجدانية، نجد موقفًا واضحًا مشددًا على ضرورة وقف إطلاق النار في غزة فورًا، وإدخال المساعدات الإنسانية والغذائية لأبناء القطاع الذين يعانون صباح مساء كلّ يوم، وفي الوقت عينه دعا إلى إطلاق سراح جميع الرهائن المحتجَزين في القطاع.
من جديد، كان أسقف روما العتيد، يدعو إلى عدم السماح لرياح السباق إلى التسَلُّح بأن تزيد من رقعة النيران التي تمسك بأطراف المنطقة منذ عقود، ومن غير أدنى مقدرة حقيقية على إطفائها، ولا ينفكّ يُذكِّر بأن الحرب لا تؤدّي إلى هدف بل تطفئ الأمل، فهي هزيمة في كل الأحوال.
رسالة فرنسيس إلى قناة العربية، تأخذنا في واقع الأمر إلى مواقف حاضرة الفاتيكان من قضايا الشرق الأوسط، وفي المقدِّمة منها القضية الفلسطينية.
يَعِنُّ لنا أن نتساءل: “هل هذه الرؤى الفاتيكانية أمرٌ مهمٌّ أو يمكن التعويل عليه أدبيًّا؟
لسنا في حاجة مرة جديدة للتذكير بأن البابا ليس لديه فرق عسكرية، ولا بأن حقيبته السوداء التي يحملها بنفسه في رحلاته، تحتوي على شفرات الفاتيكان النووية، كما تنَدَّرَ بعضُهم ذات مرة على “الفقير وراء جدران الفاتيكان”.
تاريخيًّا يُمَثِّل البابا بحكم منصبه كنيسة عالمية عابرة للحدود، وصفها المؤرّخ الأميركي الشهير “وول ديورانت”، في موسوعته “قصة الحضارة” بأنها: “أقدم وأهم مؤسسة بشرية عبر التاريخ”، ذلك أنها تراكم تاريخًا متصلاً لا منفصلاً يربو على ألفَيْ عام، وعليه تحمل مكانتُه سلطةً أخلاقية معترف بها عالميًّا، وقوة ناعمة سياسية، ولهذا ليس بالمستغرَب أن نجد بابا الفاتيكان محاورًا رئيسيًّا ووسيط في الكثير من الصراعات العالمية.
على أنه رغم هذا الضعف البادي على مُحَيَّا البابا الذي يمضي في عقده التسعيني حثيثًا، يبدو صاحب قوة إقناع معنوية وسلطة أدبية كبيرة تجاه قرابة مليار وأربعمائة مليون كاثوليكيّ حول العالم، ولعل بعض تصريحاته قبل عامَيْن، وتحديدًا بعد أزمة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أزعجت القيصر بوتين، لا سيَّما حين طالب البطريرك الروسي كيريل، بأن يكون بطريرك الربّ، لا بطريرك القيصر.
في هذا السياق، يبدو صوت البابا الأرجنتيني الأصل مُهِمًّا بشكل خاص، سيما في ضوء الضربات الإيرانية الأخيرة تجاه إسرائيل والاحتمالات الواسعة المفتوحة للردّ.
منذ بداية حَبْرِيَّته لايزال فرنسيس يطالب بحق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلّة، التي تعيش في أمن وأمان، في وئام وسلام مع إسرائيل، وداعيًا الطرفَيْن لأن “يطبعون سيوفهم سككًا، ويحولون رماحهم إلى مناجل”، فتكون الحياة عِوَضًا عن الموت، والنماءُ عوضًا عن الدماء.
لم يكن فرنسيس في حقيقة الحال، هو أول حَبْر روماني يتخذ موقفًا عادلا من القضية الفلسطينية، سيما أن الفاتيكان من الأصل، وفي زمن البابا بيوس العاشر (1835-1924) كان رافضًا لقيام دولة يهودية على أرض فلسطينية يمتلكلها العرب، مسلمين ومسيحيّين، ما صدم تيودور هيرتزل، في مقابلته له، وهو الأمر الذي ترتبت عليه أزمات متواصلة بين الدولة العبرية وحاضرة الفاتيكان، استمرّت حتى أول زيارة لمسؤول إسرائيلي عالي المستوى، تمثل في رئيسة الوزراء جولدا مائير للفاتيكان خلال حبرية البابا بولس السادس (1897-1978)، ورغم هذه الزيارة، لم تنشأ علاقات دبلوماسية بين تل أبيب والفاتيكان إلا بعد اتفاقية أوسلو عام 1993.
تحفظ أضابير التاريخ مواقف متقدمة، لأحبار رومانيين كبار، من أمثال البابا يوحنا بولس الثاني (1920-2005)، ذاك الذي لم يكن يومًا متحفظًا عن مساندة القضايا العربية، والقضية الفلسطينية في مقدمها بشكل خاص، سيما أنه التقى الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في عشر مناسبات منفصلة طوال فترة بابويّته التي امتدت قرابة 27 عام من 1978 حتى 2005، كما كان استباقيًّا نحو الاعتراف النهائي بالدولة الفلسطينية.
قبل يوحنا بولس الثاني، كان البابا بولس السادس أول حبر روماني يزور مدينة القدس، ويصلي في أماكن مسيحية مقدسة، رغم معارضة سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ويتذكر العالم أنه وفي رسالته البابوية بمناسبة عيد الميلاد عام 1975، دعا مباشرة دولة إسرائيل والعالم برُمَّتِه إلى الاعتراف بالحقوق والتطلُّعات المشروعة للشعب الفلسطيني الذي عانى لفترة طويلة على حَدِّ تعبيره، وقد جاءت هذه الرسالة في أوج سنوات الكفاح الفلسطيني، ولم يَرْهَبْ وقتها الكرسيُّ الرسولي أن يُتَّهَم بأنه معادٍ للسامية أو مناصر للعنف الفلسطيني.
تبدو حاضرة الفاتيكان اليوم، ووسط إرهاصات نظام عالمي متعدّد الأقطاب، طرفًا فاعلاً بصورة أو بأخرى، ويتسم تقييم البابا فرنسيس للشؤون العالمية بالواقعية السياسية، ويدعو إلى مزيد من الحوار المتعدِّد الأطراف، واحترام سيادة القانون، وهي النقاط التي بانت جليًّا في إرشادَيْن رسوليَّيْن، الأول صدر في 2023 باسم Laudato Deum أو “سبحوا الله “، والذي تركَّزَ حول أزمة المناخ العالمي، والثاني صدر أوائل إبريل/ نيسان الجاري تحت عنوان Dignitas Infinita أو “الكرامة اللانهائيّة”، وتشاعب قضايا عصرانية مجتمعية تتقاطع مع السياسات الدولية.
على أنه ومنذ إندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس، انخرط الفاتيكان في صراع خطابي، كشف عن جروح عميقه بعضها قديم للغاية والآخر جديد.
وفي كل الأحوال تبقى العلاقات الدبلوماسية مع الفاتيكان، رصيدًا مضافًا للحضور العربي والإسلامي في عالم متغير ومتحول.
ندوة توعية حول العنف القائم على النوع الاجتماعي في عكار برعاية كاريتاس وصندوق الأمم المتحدة للسكان
ندوة توعية حول العنف القائم على النوع الاجتماعي في عكار برعاية كاريتاس وصندوق الأمم المتحد…