مايو 3, 2022

المطران عوده: لبنان ليس بحاجة إلى علاج مسكّن بل إلى حلّ جذريّ يوقف الانهيار

تيلي لوميار/ نورسات

المطران عوده لبنان ليس بحاجة إلى علاج مسكّن بل إلى حلّ جذريّ يوقف الانهيار

ترأٍّس راعي أبرشيّة بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المتروبوليت الياس عوده، قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في وسط بيروت، وألقى عظة بعد الإنجيل المقدّس جاء فيها:

“المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت، ووهب الحياة للّذين في القبور.

أحبّائي، بعدما عيّدنا لقيامة ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح من بين الأموات، مررنا بأسبوع يسمّى “أسبوع التّجديدات”، لأنّنا، في كلّ يوم من الأسبوع الماضي، جدّدنا التّعييد للقيامة المجيدة كأنّنا نعيّد نهار الفصح نفسه. إحتفلنا في اليوم الأوّل بـ”إثنين الباعوث”، لأنّ البشريّة انبعثت من الخوف النّاتج عن الموت، إلى الفرح السّرمديّ والحياة الأبديّة اللّذين أدخلتهما القيامة البهيّة إلى بشريّتنا السّاقطة. لهذا السّبب، قرأنا الإنجيل المقدّس بعدّة لغات، دلالةً على أنّ القيامة هي لكلّ المسكونة، بجميع لغاتها وشعوبها، والكلّ مدعوّ إلى قبول هذه البشرى بالحرّيّة الممنوحة له من الله.

سمعنا في المقاطع الإنجيليّة خلال أسبوع التّجديدات شهادة النّبيّ يوحنّا المعمدان عن الرّبّ يسوع، وهذه الشّهادة نفسها هي دينونة للفرّيسيّين والكتبة، الّذين سمعوها، لكنّهم لم يفهموها. قال المعمدان: “أنا أعمّد بماء، ولكن بينكم من لستم تعرفونه، هو الّذي يأتي بعدي، الّذي صار قبلي، الّذي أنا لست بمستحقّ أن أحلّ سير حذائه”. كلام يوحنّا ذكّر به الإنجيليّ يوحنّا في إنجيل الفصح المجيد، إذ قال: “يوحنّا شهد له وصرخ قائلًا: هذا هو الّذي قلت عنه إنّ الّذي يأتي بعدي صار قبلي لأنّه متقدّمي”. سمعنا الكلام عينه طوال هذا الأسبوع المبارك إضافةً إلى كلام آخر على المعمدان وعلى المعموديّة. فلماذا نسمع هذا الكلام؟

إنّ النّبيّ يوحنّا المعمدان يعتبر صلة الوصل بين العهدين القديم والجديد، وشهادته كانت مهمّةً جدًّا من أجل اليهود، كي يؤمنوا. إلّا أنّ معلّمي اليهود، الفرّيسيّين والكتبة، الّذين ينسبون إلى أنفسهم تطبيق النّاموس وحفظ الأنبياء، لم يفهموا ما نطق به النّبيّ يوحنّا، ولم يعرفوا حقيقة المسيح، فأسلموه إلى الصّلب والموت. لهذا السّبب، نجد الكنيسة المقدّسة تذكّر بكلام النّبيّ، مسلّطةً الضّوء على أنّ غالبيّة الّذين يدّعون المعرفة يجهلون الحقيقة. حتّى التّلاميذ، الّذين كانوا دومًا مع المسيح، لم يعرفوه حقّ المعرفة، لذا سمعنا في هذا الأسبوع المبارك أنّهم نسوا كلام الرّبّ، فذكّرهم به الملاك، وأنّ قلوبهم لم تكن مضطرمةً عندما كان الرّبّ يشرح لهم الكتب والأنبياء ويكلّمهم في الطّريق. هذا يجعلنا نفهم أنّ حضور المسيح الدّائم في حياتنا ضروريّ، لأنّنا من دونه لا نستطيع أن نفهم عنه شيئًا. من هنا ندرك أهمّيّة الرّوح القدس، الّذي يسكن فينا منذ المعموديّة، الأمر الّذي يجعلنا نفهم كلام النّبيّ يوحنّا أنّه هو يعمّد بالماء فقط، وسيأتي بعده من سيعمّد بالرّوح القدس والنّار.

إنّ الأعياد في كنيستنا المقدّسة مرتبطة ليتورجيًّا. فنحن نبدأ منذ الفصح بالتّهيئة ليوم الخمسين، أي للعنصرة، ولمعموديّة الرّوح القدس والنّار. لهذا السّبب سمعنا كثيرًا في هذه الفترة عن المعموديّة والمعمدان، وحتّى عن نيقوديموس الّذي شرح له الرّبّ موضوع إعادة الولادة “بالماء والرّوح”. بالمعموديّة يبقى الرّبّ معنا طوال حياتنا، إلّا إذا اخترنا أن نسير بعيدًا عنه، بحرّيّتنا. لهذا، فإنّ الفرق بين اليهود الّذين لم يعرفوا المسيح بحسب الإنجيل، وبين المسيحيّين، أنّ المسيحيّين عرفوا المسيح من خلال العهد الجديد، وفهموا العهد القديم ممّا تحقّق منه في المسيح، أيّ فهموا صلة الوصل بين العهدين، المتمثّلة بيوحنّا المعمدان، والله يبقى معهم ويؤازرهم في فهم الحقيقة وعيشها، كلّما بقوا سائرين نحو المسيح القائم من بين الأموات.

القدّيسون مثال ساطع على السّير نحو الحقيقة القياميّة. فالقدّيس العظيم في الشّهداء جاورجيوس، الّذي نقلنا التّعييد له إلى إثنين الباعوث، لأنّ عيده وقع خلال الأسبوع العظيم المقدّس، والّذي هو شفيع عدد من كنائسنا، وشفيع مستشفانا وجامعتنا، كما هو شفيع مدينتنا بيروت وقد سمّي خليج بيروت على اسمه منذ القديم، هذا القدّيس لم يأبه للتّعذيبات المميتة، أو السّموم الّتي ناولوه إيّاها، لأنّه وثق بالمسيح القائم، المنتصر على الموت، وقد غلب القدّيس جاورجيوس كلّ ذلك بقوّة إيمانه تلك.

يزهر عيد الشّهيد العظيم جاورجيوس في الفترة الفصحيّة المباركة، ليكون مثالًا لنا على قوّة حضور المسيح في حياتنا، وليعلّمنا أنّنا سنقوم من جميع آلامنا، مثله، هو الّذي تمثّل بسيّده المتألّم والقائم من الموت. طبعًا، الله الّذي منحنا حرّيّتنا، لا يرفض الشّكّاكين، لكنّه يقبلهم ويظهر لهم حقيقته، وعندئذ يدانون حسب استعمال حرّيّتهم ومدى قبولهم إيّاه، تمامًا مثلما حدث مع بطرس، ومع توما الّذي سمعنا عنه في إنجيل اليوم.

ما سمعناه في إنجيل اليوم هو نفسه الّذي سمعناه في خدمة الباعوث بعدّة لغات. هناك توقّفنا عند شكّ الرّسول توما الّذي صرّح علنًا بأنّه لن يؤمن إن لم يعاين بلمس اليد. أمّا اليوم، فتزيد كنيستنا المقدّسة اليقين الّذي وصل إليه توما بعد شكّه. ليس الشّكّ دومًا إلحادًا، لكنّه قد يكون مدخلًا إلى إيمان عظيم، وقد تجلّى هذا الإيمان النّابع من اليقين بعد الشّكّ، في سيرة الرّسول توما، الّذي ذهب ليبشّر بلاد الهند، حيث عانى ما عاناه في سبيل نشر البشرى السّارّة القياميّة.

لقد جذبت الكنيسة انتباه النّاس من خلال إعلان شكّ توما بعدّة لغات، ذلك لكي تثير فضولهم، فيذهبون بدورهم ليتابعوا القراءة ويعرفوا ما حدث مع توما بعد ذلك. هذا التّشويق خلال أسبوع التّجديدات ينتهي اليوم، في أحد توما، المسمّى “الأحد الجديد” للدّلالة على أنّ الإنسان الّذي يبني إيمانه على يقين القيامة وحقيقيّتها، يصبح إنسانًا جديدًا، مثل توما.

المسيح لا يجبر أحدًا على اتّباعه، لكنّه يهيّء النّفوس لاقتباله، مظهرًا نفسه شيئًا فشيئًا، تمامًا مثلما حدث بعد القيامة. بدايةً ظهر للمجدليّة الّتي أخبرت التّلاميذ، ثمّ للوقا وكلاوبا اللّذين شرح لهما الكتب وكلّ ما نطقت به الأنبياء عنه، بعد ذلك للتّلاميذ المختبئين في العلّيّة خوفًا من اليهود، وفي الأخير لتوما الّذي حضّره التّلاميذ الآخرون للقاء المسيح النّاهض. هكذا يثبّت الإيمان، من دون إجبار، إنّما بتحضير كلّ نفس على حسب ما تستطيع، وبهذه الطّريقة تعمل الكنيسة حتّى يومنا.

يا أحبّة، هناك من يشكّك بإمكانيّة قيامة لبنان. بعض اللّبنانيّين مقتنعون أنّ لا شيء سيتغيّر بالانتخابات، لذلك لا جدوى منها. لهؤلاء نقول إنّ عليهم المحاولة. من لا يزرع لا يقطف ثمارًا، ومن لا يعمل لا يجني نتيجةً. بلدنا بحاجة إلى من يؤمن به ويعمل من أجل إنقاذه. لبنان بحاجة إلى رجال كبار يقدّمون مصلحته على كلّ مصلحة، يصارحون الشّعب ويضعون الخطّة الإنقاذيّة المناسبة من أجل انتشاله من القعر حيث يرزح.

لبنان ليس بحاجة إلى علاج مسكّن بل إلى حلّ جذريّ يوقف الانهيار ويولّد الأمل في النّفوس، يحدّ موجات الهجرة، ويعيد للمواطن كرامته وحقوقه، ويضع حدًّا للبطالة والفقر والجوع والعوز، ويعيد توحيد المجتمع تحت راية الدّولة القوّية العادلة، ويعيد الشّعب شعبًا واحدًا، ومجتمعًا متراصًّا، ويضمن حدودًا محصّنةً وسيادةً محفوظة. كلّ هذه لن تحصل إلّا إذا قرّر اللّبنانيّون، كلّ اللّبنانيّين، التّوجّه إلى صناديق الاقتراع وانتخاب رجال ونساء أكفياء، نظيفي الكفّ وحسني السّمعة وذوي علم واختصاص وخبرة، وقبل كلّ شيء مؤمنين ببلدهم ومزمعين على العمل من أجل إنقاذه.

دعوتنا اليوم هي إلى الابتهاج بقيامة الرّبّ، وإلى نشر هذه البشرى السّارّة من دون أدنى شكّ بحقيقيّتها، وأن نسعى إلى الحفاظ على الحضور الإلهيّ في حياتنا وفي وطننا كي نبقى سائرين في النّور القياميّ المبهج، نحو الحقيقة الوحيدة، بمؤازرة الرّوح القدس، آمين”.

‫شاهد أيضًا‬

قوة الابتسامة: كيف يصنع الإيمان والسلام الداخلي جوًا إيجابيًا في حياتنا

عندما يضع الإنسان ثقته في الله، يشعر بأن هناك من يقوده ويرعاه، فيتجاوز المخاوف ويعيش بروح …