عوده في قدّاس الفصح: لا قيامة للبنان إن بقي الشّعب، قبل الزّعماء، يدقّ المسامير في نعش الوطن
تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده، خدمة الهجمة وقدّاس الفصح في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس، حيث ألقى عظة بعد الإنجيل المقدّس قال فيها:
“المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت، ووهب الحياة للّذين في القبور.
أحبّائي، وصلنا اليوم إلى فرح القيامة المجيدة، قيامة ربّنا وإلهنا ومخلّصنا من بين الأموات. لقد داس المسيح الموت الّذي كان الجميع يهابونه، وحطّم أبواب الجحيم وأقفالها، مقيمًا آدم وحوّاء وكلّ ذرّيّتهما، كما سمعنا في تراتيل هذا النّهار المبارك.
إنّ عبارة “المسيح قام” ليست عبارةً عاديّةً، ولا كلامًا عابرًا، بل إنّها حقيقة، وإيماننا مبنيّ عليها، كما يقول الرّسول بولس: “إن لم يكن المسيح قد قام، فباطلة كرازتنا، وباطل أيضًا إيمانكم” (1كو15: 14).
قيامة المسيح أدخلت الرّجاء إلى العالم أجمع، إذ كان اليأس قد تغلّب على طبيعتنا البشريّة السّاقطة. الشّيطان يزرع اليأس في نفوسنا لنظنّ أنّ الله تركنا، الأمر الّذي عبّرت عنه زوجة أيّوب الصّدّيق عندما أصابها اليأس من حالة زوجها المرضيّة، فصرخت طالبةً منه أن يهين الرّبّ ويموت. لكنّ أيّوب، الّذي كان ممتلئًا من الإيمان والرّجاء بالله، أسكت زوجته، المدفوعة من إبليس، قائلًا لها إنّها تتكلّم كالجهّال.
قيامة الرّبّ جعلتنا متيقّنين أنّ الله لا يترك خليقته، لكنّ البشر هم الّذين يديرون ظهورهم ويسيرون بعيدًا عن خالقهم، ثمّ يلومونه عندما تواجههم المصائب. المسيح، كما سمعنا في إنجيل اليوم، هو النّور الحقيقيّ الّذي ينير كلّ إنسان آتيًا إلى العالم، لكنّ العالم لم يعرفه وخاصّته لم تقبله، وبدل أن يبعدوا الجهل عن عقولهم والعمى عن قلوبهم ويسيروا وراء نور العالم الآتي ليخلّصهم، نجدهم قد خانوه وأسلموه وصلبوه. لكنّ المسيح لا يشاء موت البشر، بل أتى لخلاصهم وانتشالهم من ظلمة الجهل والخطيئة، هو القائل: “أنا قد جئت نورًا إلى العالم، حتّى إنّ كلّ من يؤمن بي لا يمكث في الظّلمة” (يو 12: 46). لهذا، قام المسيح من بين الأموات، ونشر نور القيامة في كلّ العالم، لكي أنّ كلّ من لم يؤمن في السّابق ويخلص، يقدر أن يؤمن الآن وينال الحياة الأبديّة والرّحمة العظمى.
نفهم من إنجيل اليوم أنّ المسيح، الّذي غفر لأبناء جنسه الّذين صلبوه، عاد قائمًا من بين الأموات لكي يعطيهم سلطانًا “أن يصيروا أبناء الله” (يو 1: 12)، شرط أن يقبلوه. هؤلاء لم يقبلوه، مع أنّهم عاينوا منه آيات وعجائب لا تحصى، مقيمًا الموتى وشافيًا المرضى. حتّى عند تسليمه أعاد أذن عبد رئيس الكهنة إلى مكانها (لو 22: 51)، ومع ذلك لم يفهموا حقيقته. القيامة هي الفرصة الأخيرة حتّى يؤمن من لم يشأ أن يفهم ويؤمن.
لم يقم المسيح لأنّه يريد أن يستعرض قواه، هو الّذي قال لبطرس حين التّسليم: “أتظنّ أنّي لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدّم لي أكثر من اثني عشر جيشًا من الملائكة؟” (مت 26: 53). قام المسيح لعظم محبّته للبشر، تمامًا مثلما احتمل كلّ الإهانات، والموت من أجل خلاص البشر، الّذين تجسد لكي يخلّصهم، منتشلًا إيّاهم من براثن الشّيطان الّذي يريد أن يستعبدهم ويغرقهم في موت الخطيئة.
يا أحبّة، ليس عبثًا أن نردّد “المسيح قام” أربعين يومًا بعد الفصح. فكما صمنا أربعين يومًا، وربّما قد نكون يئسنا من خلاصنا، كما فعل الشّعب العبرانيّ الّذي قضى أربعين سنةً في الصّحراء، كذلك نصرخ الهتاف القياميّ مدّة أربعين يومًا، لأنّ خلاصنا اكتمل، والرّقم “أربعون” يدلّ على الكمال، وعلى التّكريس، لهذا ندخل الطّفل إلى الكنيسة في يومه الأربعين.
أمّا على صعيد وطننا، فقد شاءت العناية الإلهيّة أن يكون الاستحقاق الانتخابيّ الدّيمقراطيّ ضمن الفترة الفصحيّة الأربعينيّة، علّ شعبنا يدرك أنّ القيامة ليست مستحيلةً، لكنّها تحتاج إلى فعلة يكرزون بها ويعملون من أجلها، مثلما فعل رسل المخلّص. الرّسل لم يقبلوا رشوةً ليطمسوا حقيقة القيامة، بل بشّروا العالم، فيما يشاء البعض التّشبّه بيهوذا، الّذي باع المخلّص، ثمّ يئس من حاله وقتل نفسه. ألا يشبه المرتشون ذاك الخائن؟ يوحنّا المعمدان، الّذي سمعنا عنه في إنجيل اليوم، جاء ليشهد للحقّ، لذلك حاول الملك إسكاته بالسّجن، ثمّ تخلّص منه لأنّه لم يحتمل سماع الحقيقة الجارحة منه. هكذا أحرار بلدنا يقمعون يوميًّا أو يغتالون، لأنّهم يصدحون بصوت الحقيقة الّذي يعلو ولا يعلى عليه. الحقيقة، ولو طمست، يصدح صوتها من أعماق الأرض. لهذا، على شعبنا ألّا يهاب التّرهيب والتّهديد، وأن يسعى إلى إنقاذ ما تبقّى من فتات بلد، وأشلاء عائلات، علّهم يكونون البقيّة الباقية، الّتي تضمن قيامة الوطن من جحيمه.
في السّنتين الماضيتين عبّر المواطنون عن غضبهم وقرفهم ويأسهم. الآن جاء وقت الامتحان. هل سيترجمون غضبهم في صناديق الاقتراع؟ هل سيذهبون جميعهم إلى الإدلاء بأصواتهم ومحاسبة كلّ من ساهم في إيصالهم إلى ما هم عليه؟ وهل سيحاسبون من فجّر مدينتهم وعرقل التّحقيق، ومن بذّر أموالهم، وقضى على أحلامهم، واليوم يحاول هدم الأهراءات، الشّاهد الصّلب على هول الجريمة، من أجل طمس الجريمة وذكراها، وطمس الحقيقة معها؟ يريدون هدم الأهراءات بحجّة أنّها تشكّل خطرًا على الحياة. هل هي أخطر من الجوع والذّلّ وفقدان الدّواء وضياع الأمل؟
الإنتخابات سوف تحدّد مصير لبنان للسّنوات القادمة. فكّروا مليًّا قبل أن تدلوا بصوتكم. حرّروا بلدكم من خاطفيه كي لا يصبح مقبرةً للأموات وللأحياء الباقين أيضًا. إستعملوا أصواتكم للمحاسبة ولتحصيل حقّكم. ليس الانفجار وحده يقتل. الذّلّ يقتل، والجوع يقتل، واليأس يقتل. إيّاكم والخضوع. إيّاكم وبيع أنفسكم بحفنة من الفضّة. الأحرار وحدهم ينتصرون. لا تدعوا أحدًا يعمل سهام اليأس في نفوسكم وقلوبكم. مهما كان دمار تفجير الرّابع من آب ودويّه عظيمين، سيكون فرح ذوي الضّحايا خصوصًا، واللّبنانيّين عمومًا، أعظم، إذا عرف أبناء هذا الوطن الحبيب كيف يستغلّون حرّيّتهم بالشّكل الصّحيح لمسح غبار الذّلّ والقهر والفساد. لا خلاص للبنان إلّا بنبذ الانقياد الأعمى للزّعيم والحزب والقبيلة والطّائفة. لا قيامة للبنان إن بقي الشّعب، قبل الزّعماء، يدقّ المسامير في نعش الوطن، عبر التّهاون، والتّقاعس عن القيام بالواجب، أو قبول الرّشاوى الانتخابيّة، وإعادة من أساؤوا إلى البلد، وتقديم المصالح الخاصّة على مصلحة الوطن العليا. الإنتخابات هي الفرصة من أجل تجديد الحياة السّياسية، ومن أجل المحاسبة، وانتخاب من لم يدنّس يديه، ويلوّث عقله وسمعته، ويشوّه صورة وطنه، ويؤذ مواطنيه. أعملوا العقل وحكّموا الضّمير. بيدكم خلاصكم. بيدكم إعادة بناء لبنان الحرّيّة والدّيمقراطيّة والعدالة والاستقرار. إختاروا من يرى النّيابة مسؤوليّةً وخدمةً لا شرفيّةً أو مصلحة. الدّولة لا تحكم بالكلام، بالشّعارات والوعود. الدّولة تدار بالأفعال، بالقرارات، بالإصلاحات. لا تنقادوا وراء زعيم يعدكم بالخدمات لأنّ هذه من واجبات الدّولة، وهي حقّ لكم. إختاروا من يؤمنون بالدّيمقراطيّة الحقيقيّة غير المشوّهة، وبفصل السّلطات واستقلاليّة القضاء، وبالمراقبة والمحاسبة. إختاروا من يؤمنون بسيادة الدّولة وبحكم القانون. إنتخبوا من يؤمن بالدّولة القويّة ذات السّيادة غير المنقوصة، دولة القانون والعدالة والمساواة والمحافظة على كرامة المواطن. فكّروا في ما سيكون عليه الوضع بعد الانتخابات، وأيّ لبنان تريدون. صوتكم سيحدّد مستقبلكم. إذا كنتم تريدون التّغيير اختاروا من ترون فيهم أملاً بالتّغيير، ومن يقدّمون لكم برنامج عمل يتناسب مع آمالكم وطموحاتكم، ومن يتكلّمون حقيقةً باسمكم، ويعملون على بناء دولة حقيقيّة بعيدًا عن آفات الفساد والمحاصصة وتقاسم المغانم.
عندما يقتنع اللّبنانيّ أنّ الدّولة ومؤسّساتها هي له، تمامًا كما هو بيته، يحافظ عليها كبيته. أملنا أن يكون ما مرّ به اللّبنانيّ من صعوبات ومآس قد رسّخ عنده هذا المفهوم.
صلاتنا أن تشهد هذه الفترة الفصحيّة قيامة لبنان، وجميع أبنائه، من الموت النّفسيّ والمعنويّ والإداريّ والأخلاقيّ الّذي وصلنا إليه. كما نصلّي كي يكتمل فرح قيامتنا بعودة أخوينا المطرانين بولس ويوحنّا، اللّذين لم يحرّك المجتمعان المحلّيّ والدّوليّ ساكنًا لمعرفة حقيقة اختفائهما، تمامًا كحقيقة تفجير بيروت.
أعاد ربّنا القائم من بين الأموات عليكم هذا العيد المبارك بالصّحّة والفرح، وعلى بلدنا بالتّحرّر من كلّ عبء وشرّ وفساد وارتهان، وجعل قيامته بلسمًا يطيّب نفوس الأمّهات اللّواتي خسرن فلذات أكبادهنّ في الرّابع من آب، ويعيد البسمة إلى وجوه جميع اللّبنانيّين الّذين فقدوا طعم الفرح منذ بداية الأزمات المتتالية.
المسيح قام… حقًّا قام…”.
يسوع الطبيب الشافي القدير
صلاة إلى يسوع الشافييا يسوع المسيح، الطبيب الإلهي والشافي القدير،نتقدم إليك اليوم بإيمان و…