عوده: ليصلب كلّ إنسان رغبته الأثيمة في التّسلّط ويحوّلها إلى روح الخدمة والتّواضع والمحبّة
تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذس المطران الياس عوده، صباح الأحد الخامس من الصّوم، خدمة القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس، ألقى خلاله عظة بعد الإنجيل، قال فيها:
“في هذا الأحد الّذي هو الخامس من الصّوم، تحيي الكنيسة المقدّسة تذكار البارّة مريم المصريّة، الّتي أضحت مثالاً حيًّا للتّوبة والجهاد الصّادق، مظهرةً لنا أنّ التّوبة هي الطّريق إلى الملكوت، ومبيّنةً لنا عظم محبّة الله، ورحمته الّتي لا تحدّ على من ينبذون خطاياهم، ويطهّرون قلوبهم، ويحملون صليبهم، ويحثّون السّير بإيمان في طريق التّوبة الصّادقة.
في هذا الأحد تتلو علينا الكنيسة مقطعًا إنجيليًّا يتمحور حول فكرة التّضحية وبذل الذّات كأساس للحياة في المسيح: “من أراد أن يكون فيكم كبيرًا فليكن لكم خادمًا، ومن أراد أن يكون فيكم أوّل فليكن للجميع عبدًا”.
نسمع في إنجيل اليوم، أنّ المسيح، فيما كان ينبئ تلاميذه “بما سيحدث له”، كانوا هم يطلبون المجالس الأولى. كلّمهم عن الآلام والبصاق والجلد والموت، لكنّ ذهنهم لم يتوقّف سوى عند آخر كلمة له: “وفي اليوم الثّالث يقوم”. لذلك، اقترب منه ابنا زبدى وطلبا منه المشاركة في مجده قائلين: “أعطنا أن نجلس أحدنا عن يمينك والآخر عن يسارك في مجدك” (مر 10: 37). هو يكشف لتلاميذه سرّ الفداء العظيم، وابنا زبدى يلتمسان منه مجدًا ورفعة. هذا تأكيد على أنّ البشر يهتمّون بما لأنفسهم لا بما يرضي الله. ولكي يعيدهما المسيح إلى طريق الصّواب، ذكّرهما بالكأس التي سيشربها، أيّ آلامه. قلب مفهوم السّلطة مظهرًا أنّ من يريد أن يكون أوّلاً عليه أن يخدم الجميع. لذا، إنّ المشاركين في مجده هم الّذين يحملون صليبه طوعًا، ويميتون خطيئتهم على صليب وصاياه. الّذين يطلبون مجد النّاس والمجالس الأولى، لا يعلمون ماذا يطلبون، بينما الّذين يتمتّعون بحسن المعرفة، يفتخرون بصليب المسيح، وبضعفاتهم. يجدون الرّاحة في التّواضع، حيث يتعرّفون بشكل أفضل على محبّة المسيح الضّابطة الكلّ، هو الّذي “وضع نفسه وأطاع حتّى الموت، موت الصّليب”(في 2: 8).
في النّصّ الإنجيليّ سمعنا الرّبّ يسوع يقول لإبني زبدى: “لستما تعلمان ما تطلبان”. لكنّه، في موضع آخر، عندما سأله بطرس: “ها نحن قد تركنا كلّ شيء وتبعناك، فماذا يكون لنا؟”(مت 19: 27)، أجاب: “إنّكم أنتم الّذين تبعتموني في التّجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسيّ مجده، تجلسون أنتم أيضًا على اثني عشر كرسيًّا تدينون أسباط إسرائيل الإثني عشر”(مت 19: 28). هذا يعني أنّ الّذين هجروا كلّ شيء وتبعوا المسيح، سوف يتنعّمون بمجد ملكه.
هناك مجدان: مجد النّاس ومجد الله. مجد النّاس فارغ، والّذين يطلبونه يحصلون على المجد الباطل. بقدر ما يحاولون أن يشبعوا منه، بقدر ما يزداد جوعهم، لأنّ هذا المجد الأرضيّ لا يولّد الطّمأنينة والسّلام في النّفس. فصاحب المال يسعى للحصول على مال أكثر، وصاحب السّلطة ينشد سلطةً أكبر، لأنّ ما لديه لم يوفّر لنفسه الأمان. هؤلاء كمثل الّذين قال لهم الرّبّ: “ويل لكم أيّها الفريّسيّون لأنكم تحبّون صدور المجالس في المجامع والتّحيّات في السّاحات”(لو 11: 43).
أمّا مجد الله، فهو قوّة الله وفعله ونعمته الّتي بها خلق العالم ويسود الكون، وهي الّتي تنير الإنسان وتؤلّهه. مجد الله هو حياة النّفس ومتعة القدّيسين في الدّهرين الحاضر والآتي. الّذين يطلبون مجد النّاس الفارغ لا يشعرون بعظمة الله، لأنّ مجد النّاس يميت الإيمان. هذا ما يقوله المسيح في إنجيل يوحنّا: “كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدًا بعضكم من بعض؟ والمجد الّذي من الإله الواحد لستم تطلبونه”(5: 44). إذًا، من يطلب مجد النّاس لا يستطيع أن يؤمن، ومن ليس له إيمان لا يقدر أن يشتهي مجد الله.
إنّ ميل النّفس إلى الحصول على المجد هدفه أن يشتهي الإنسان مجد الله الّذي يشعّ من وجوه القدّيسين برًّا وتواضعًا ومحبّة. هذه الصّفات معاكسة تمامًا لما يعرفه أصحاب المجد في هذا العالم. قال الرّبّ في إنجيل اليوم: “الّذين يحسبون رؤساء الأمم يسودونهم، وإنّ عظماءهم يتسلّطون عليهم”(مر 10: 42). أيّ إنّ الّذين يعتبرون رؤساء في هذا العالم يجورون على الشّعب، وينصّبون أنفسهم أسيادًا، ويتسلّطون على البشر. كان هذا الأمر شائعًا في زمن المسيح، لكنّه يحدث بشدّة أيضًا في زماننا هذا. فعلى الرّغم من أنّ الدّيكتاتوريّات اندحرت معظمها في العالم، إلّا أنّ الأنظمة الّتي يقال عنها ديمقراطيّة، كحال بلدنا، تبتكر الأساليب البديعة للمحافظة على مصالح كبار القوم ومكتسباتهم، بغية محافظتهم على السّلطة. أليس القضاء النّزيه مقموعًا في بلدنا؟ ألا تخفى الدّلائل والحقائق في خدمة ذوي النّفوذ؟ ألا يصبح المظلوم ظالمًا بفعل ملفّات تظهر بين ليلة وضحاها؟ ألا يسلب الفقير قروشه كي يبقي الغنيّ على ملايينه؟ لكنّ ما يجب أن يستقطب انتباهنا هو كلمة المسيح. ومهما تسنّى لرؤساء هذا العالم أن يفرضوا على الشّعب مناهج وطرائق للحياة معاكسةً لطبيعة الإنسان الحقيقيّة، الّتي هي على صورة الله، تبقى سلطتهم طيفًا وسرابًا. لم يقل المسيح “رؤساء الأمم”، بل “الّذين يعدّون رؤساء”، لأنّ الرّؤساء الحقيقيّين هم تلاميذ المسيح ورسله وقدّيسوه وكلّ مؤمن به.
لقد دخلت سلطات هذا العالم في حياة النّاس بعد فقدان الفردوس. السّلطات عاقبة السّقوط، غير أنّ الله باركها، لأنّها ضروريّة من أجل تأديب المجتمع الّذي فقد ارتباطه بالله. ما من سلطة “إلّا من عند الله” (رو 13: 1) فيما شهوة التّسلّط والسّيطرة على الآخرين هي دليل العبوديّة الدّاخليّة. من يريد أن يسيطر على الآخرين هو عبد في داخله، وتكشف لنا خبرة القدّيسين أنّه بقدر ما يتحرّر الإنسان داخليًّا من سيطرة الأهواء، بالصّلاة وحفظ الوصايا، بقدر ما يصبح مرهف الحسّ في علاقاته مع الآخرين، ومتحرّرًا من تأثيرات المجتمع والمحيط، يحترم حرّيّة النّاس الّذين يتعامل معهم، ويحزن من الأعماق عندما يبطلها الآخرون. هذا ما فعلته القدّيسة مريم المصريّة الّتي كانت مستعبدةً نفسها لأهواء الجسد، وتحاول استعباد الآخرين معها، لكنّها تحرّرت عندما تعرّفت على المسيح المصلوب وسجدت له، فعرفت القيامة الحقيقيّة وعاشتها، وأقامت معها كلّ خاطئ يقرأ سيرتها ويعرف أنّ المسيح صلب من أجل إقامته من هوّة خطاياه.
الإنسان حرّ، هكذا خلقه الرّبّ. هذه الحرّيّة، إن لم تكبّلها الخطايا تقود الإنسان إلى أن يسعى جاهدًا من أجل خلاصه، دون أن ينشغل بالمكافأة أو يسعى إلى التّقدّم على الآخرين، والله هو الّذي يحدّد رتبة كلّ إنسان.
بالنّسبة إلى المسيح، كلّ من جعل نفسه خادمًا للجميع هو عظيم، ومن أصبح عبدًا باختياره هو الأوّل. يقول كاتب سفر الأمثال: “بمقدار ما تكون عظيمًا بمقدار ذلك ذلّل نفسك فتجد لدى الرّبّ إلهك نعمةً… كلّ مترفّع القلب نجس عند الله”. إنّ حبّ الرّئاسة مرض روحيّ يصيب الإنسان الّذي لم يتعلّم التّواضع بعد، لذلك نحن نتلو يوميًّا خلال الصّوم المقدّس صلاة القدّيس أفرام السّريانيّ الّتي نقول في مطلعها: “أيّها الرّبّ وسيّد حياتي، أعتقني من روح البطالة والفضول وحبّ الرّئاسة والكلام البطّال…”طالبين من الرّبّ أن يخلّصنا من الآفات الرّوحيّة المتمثّلة بحبّ الرّئاسة والتّسلّط والكبرياء والاستئثار بالرّأي والأنانيّة. يؤكّد لنا إنجيل اليوم أنّ المجد الحقيقيّ يكمن في خدمة الآخرين لا في التّسلّط عليهم لذلك قال الرّبّ يسوع: “أمّا جلوسكما عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلّا للّذين أعدّ لهم… من أراد أن يكون فيكم كبيرًا فليكن لكم خادمًا”.
المسؤول الحقيقيّ هو إذًا من يقتدي بالمسيح الّذي لم يأت ليخدم بل ليخدم (مر 10: 45). في أقوال المسيح هذه تتّضح أخلاقيّة السّلطة الحقيقيّة الّتي تخدم النّاس بروح التّواضع والمحبّة. لقد حطّم المسيح صنم السّلطة الدّنيويّة، وبقوله: “لا يكون هكذا فيكم”(مر 10: 43) يتوجّه عبر تلاميذه ليقول لنا إنّ مسلكنا مرسوم في الصّليب. ليس فيه ميزة دنيويّة ولا نفوذ، بل فيه قوّة القيامة. هو المحبّة المصلوبة من أجل الآخرين.
إنّ الاتّضاع العظيم الّذي أظهره الرّبّ يسوع في حياته، وبذل ذاته من أجلنا، نحن غير المستحقّين، يجعل كلّاً منّا أمام امتحان الاقتداء به في المحبّة غير المشروطة، والتّضحية بلا حساب، وخدمة الآخرين دون انتظار المقابل، دائسين على كبريائنا وأنانيّتنا، فيما نحن مقبلون على مشاركته في أسبوع آلامه، علّنا نحظى بفرح القيامة المجيدة.
دعوتنا اليوم، أن يصلب كلّ إنسان رغبته الأثيمة في التّسلّط على الآخرين، ويحوّلها إلى روح الخدمة والتّواضع والمحبّة، وهكذا يشترك في مجد القيامة بنعمة الله، آمين.”
قوة الابتسامة: كيف يصنع الإيمان والسلام الداخلي جوًا إيجابيًا في حياتنا
عندما يضع الإنسان ثقته في الله، يشعر بأن هناك من يقوده ويرعاه، فيتجاوز المخاوف ويعيش بروح …