عوده: مشكلتنا الكبرى هي نقص المحبّة وقلّة المسؤوليّة وغياب القرار
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده القدّاس صباح الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في وسط بيروت، حيث ألقى بعد الإنجيل المقدّس العظة التّالية:
“أحبّائي، يأتي إنجيل اليوم بعد وصيّة الرّبّ يسوع بألّا نكنز كنوزًا على الأرض حيث تسرق ويأكلها السّوس، بل في السّماء حيث لا سوس ولا سرقة، واضعين القلوب فوق، كما نسمع في القدّاس الإلهيّ.
يقول لنا الرّبّ: “سراج الجسد العين، فإن كانت عينك بسيطةً فجسدك كلّه يكون نيّرًا وإن كانت عينك شرّيرةً فجسدك كلّه يكون مظلمًا، وإذا كان النّور الّذي فيك ظلامًا فالظّلام كم يكون؟”.
العين البسيطة هي عكس العين ذات الرّؤية المتعدّدة، الّتي تطلب الله يومًا، لكنّها تعود لطلب العالم أيّامًا، فلا تشبع من مغرياته. من يريد كنز كنوزه في السّماوات يركّز نظر عينه على السّماويّات فقط، ويكون مشتهاه أن تكون السّماوات سكناه الأبديّة، فيستهين بالعالم حاسبًا إيّاه نفايةً كما يقول بولس الرّسول.
الإنسان المؤمن الّذي تكون عينه بسيطةً، يذكر ما فعله المسيح من أجله، فلا يثبّت نظره إلّا على الملكوت السّماويّ، ويعمل طيلة حياته من أجل أن يرثه. لذا، نسمع في رسالة اليوم تذكيرًا من الرّسول بولس القائل: “محبّة الله قد أفيضت في قلوبنا بالرّوح القدس الّذي أعطي لنا، لأنّ المسيح، إذ كنّا بعد ضعفاء، مات في الأوان عن المنافقين، ولا يكاد أحد يموت عن بار. فلعلّ أحدًا يقدم على أن يموت عن صالح؟ أمّا الله فيدلّ على محبّته لنا بأنّه إذ كنّا خطأةً بعد، مات المسيح من أجلنا”. بعد سماع كلام كهذا، كيف لنا، كمسيحيّين، أن ننظر إلى الزّائلات، أو أن نرنو إلى زعيم أرضيّ فان؟ من الّذي يبذل نفسه من أجل آخر، أيًّا يكن، سوى المسيح؟ إذًا، من كانت عينه بسيطةً وعقله نيّرًا يبحث فقط عن الله ومجده، ويكون المسيح ساكنًا قلبه، مستريحًا فيه، وتكون حياته هي المسيح (في 1: 21)، وبما أنّ المسيح نور، يصبح جسده كلّه نيّرًا.
لا يقدر الإنسان أن يعبد سيّدين، خصوصًا إذا كانا متناقضين مثل الله والمال. إنّ الله سيّد رحوم ومحبّ، أمّا المال فسيّد ظالم يحوّل من يتبعه إلى عبد ذليل، فيتخلّى عن الله كما عن ضميره وأحبّائه وكلّ ما فيه خيره، ويسعى لاهثًا وراء كسب مادّيّ ولو على حساب صحّته الرّوحيّة والجسديّة. الإنسان الرّاغب في القداسة يبيع كلّ شيء ويهرع طالبًا الله، فتكون عينه بسيطةً، لا يطلب شيئًا يشاركه في محبّة الرّبّ، بل يعطي قلبه كاملًا لله، دون أيّ انقسام أو تشويش. طبعًا، الله ليس ضدّ الأغنياء، إذ إنّ عددًا كبيرًا من الآباء والقدّيسين كانوا منهم، على مثال إبراهيم وإسحق ويعقوب وأيّوب وباسيليوس وأنطونيوس الكبير وغريغوريوس النّيصصي وغيرهم. الله لا يريدنا عبيدًا للمال، متّكلين عليه كضمان للمستقبل، وقد قال: “ما أعسر دخول المتّكلين على الأموال إلى ملكوت الله” (مر 10: 24). الله جعل منّا أبناءً له بيسوع المسيح، ناقلًا إيّانا من العبوديّة للخطيئة إلى أن نصير أبناء الملكوت، فلماذا يعود الإنسان إلى استعباد ذاته للأموال والممتلكات والزّعامات وينسى الكنز الحقيقيّ الّذي لا يزول؟
عندما يسمع الإنسان العاديّ كلام الرّبّ يسوع “لا تهتمّوا لأنفسكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون” يعتبره غير منطقيّ. لكنّ المؤمن الحقيقيّ يعرف أنّ الله هو المسؤول عن حياته، وهو يدبّر أموره من أصغرها إلى أعظمها، هو الّذي يرزق العصافير طعامها، ويلبس الأزهار أجمل الحلل. هل ثقتنا في الطّعام الّذي يفسد، واللّباس المعرّض للاهتراء، والممتلكات القابلة للسّرقة والدّمار، أكبر من ثقتنا بالله الأزليّ غير المتزعزع؟ الرّبّ يريدنا أن ننزع من قلوبنا أيّ قلق وهمّ سببه التّعلّق بالزّائلات، ويشاء خلاصنا وعيشنا بطمأنينة وهناء في ظلّ تدبير الله الّذي يرعى حياتنا، نحن المخلوقين على صورته ومثاله. يقول كاتب سفر المزامير: “ألق على الرّبّ همّك وهو يعولك” (55: 22)، والرّبّ لا يحنث بيمينه أو يخلّ بوعوده.
ألا يستطيع مصدر الحياة أن يحافظ على خليقته؟ هل يستحقّ الإنسان لقب مؤمن إن كان يلهث فقط وراء معيشته، ويهمل نفسه؟ كثيرون يتعبون طوال الأسبوع لكي يؤمّنوا لقمة العيش، ويهملون نهار الأحد معتبرينه يوم راحة، لا يوم سعي وراء طعام روحيّ يحيي النّفس، أعني جسد الرّبّ ودمه الكريمين.
يا أحبّة، نحن نفتقر في بلدنا إلى العيون البسيطة، بدءًا من المسؤولين، وصولًا إلى بعض فئات المجتمع. فالمسؤولون عيونهم شاخصة إلى أماكن عديدة ما عدا الوطن. عيونهم فقدت بساطتها مذ قرّروا النّظر إلى مصالحهم الشّخصيّة، وإلى زعماء طوائفهم وأحزابهم وجماعاتهم، ورذلوا الأهمّ، أيّ خلاص الوطن وأبنائه. كذلك، كثيرون من المواطنين قرّروا أن يفقدوا بساطة عيونهم، وأن ينظروا إلى جيوبهم على حساب إفقار أخيهم في الإنسانيّة والوطن. حبّذا لو يكون الله والوطن الهدفين الأساسيّين أمام عيون المسؤولين والشّعب، لكانوا تخلّوا عن أنانيّاتهم وكبريائهم وقاموا بواجباتهم، ولكنّا نعيش في جنّة الفردوس.
بسياساتهم الملتوية ووعودهم غير الصّادقة دفع المسؤولون الشّعب إلى الاهتمام بتأمين المأكل والمشرب والألبسة والأدوية فقط، ما حدّ من تطلّعات الشّعب وتقدّمه، وأصابه بضياع شديد أبعده عن الهدف الأسمى، أيّ خلاص النّفس والاقتراب من الله. ما الّذي يمنع المسؤولين من الإقدام على إصلاح ما فسد؟ ماذا يؤخّر انتخاب رئيس لو صفت النّيّات وصدقت الأفواه؟ ما الّذي يمنع إنقاذ هذا البلد لو كانت العيون بسيطةً والعقول نيّرةً والقلوب منفتحةً؟ مشكلتنا الكبرى هي نقص المحبّة وقلّة المسؤوليّة وغياب القرار. أليس ضروريًّا وجود رئيس لديه رؤية واضحة لإنقاذ ما تبقّى من هذا البلد؟ ألا يمنع وجود رئيس وحكومة مسؤولة اتّخاذ قرارات متسرّعة وأحيانًا مسيئة، خاصّةً إذا كانت تطال مجال التّربية الّذي تراجع في السّنوات الأخيرة وهو بحاجة إلى إصلاح جذريّ وقرارات حكيمة؟ فبعد تقزيم المنهج التّعليميّ يأتي إلغاء الشّهادة وإعطاء الإفادات كضربة قاضية على ما تبقّى من مستوى التّعليم الّذي كان مفخرة لبنان.
الأنانيّة المسيطرة على النّفوس، والتّعنّت والمصلحة أفسدت علاقات البشر وحياتهم وأفقدتهم روح التّضحية وأعمتهم عن رؤية الحقيقة. لذلك دعوتنا اليوم أن نعود إلى الرّبّ خالقنا بتوبة صادقة، ونلقي عليه كلّ همومنا، لأنّه الوحيد القادر على انتشالنا من أحلك الظّلمات. علينا أن نؤمن به وحده، ونثق بأنّه سيقيمنا من الظّلام الّذي أوصلنا إليه أبناء جنسنا، ويملأ قلوبنا نورًا وفرحًا، وهو الّذي صلب من أجلنا ليقيمنا معه إلى حياة أبديّة لا تزول، آمين.”
البابا فرنسيس في كلمته قبل صلاة التبشير الملائكي: اللقاء مع يسوع يبدّل الحياة
موقع الفاتيكان نيوز تلا قداسة البابا فرنسيس ظهر اليوم الأحد صلاة التبشير الملائكي مع وفود …