عوده: نحن نعاني من اللّامسؤوليّة وانعدام الأخلاق وقلّة الإيمان
تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- بيروت.
بعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة جاء فيها: “أحبّائي، في المقطع الّذي قرأناه من رسالة بولس الرّسول إلى أهل كورنثوس يقول لنا بولس إنّه ينقل لنا ما تسلّمه وقبل به وهو أنّ المسيح قد مات لكي نحيا، وأنّنا اشترينا بثمن باهظ جدًّا، وأنّه رأى المسيح بعد القيامة وكان قد تراءى لصفا ثمّ ليعقوب ولجميع الرّسل، وأخيرًا ظهر لبولس كأنّه للسّقط لأنّ بولس كان يعتبر نفسه أصغر الرّسل وأحقرهم، لكنّه يعرف أنّه رسول ويرجع الفضل في ذلك إلى النّعمة الّتي غمرته ودفعته إلى القيام بما قام به فأثمر الكثير.
نعمة ربّنا هي إذاً تسيّر حياتنا وتقودنا، وهي الّتي تجعلنا نتوق إلى التّألّه والصّلاح والكمال. صحيح أنّ لا صالح إلّا الله، وهو الكامل وحده، لكنّه معطى للجميع أن يكونوا صالحين وكاملين إن سمعوا كلام الرّبّ يسوع وتلاميذه وعملوا به.
أحبّائي، في إنجيل اليوم سمعنا حوارًا بين شابّ وبين الرّبّ يسوع حول الصّلاح والحياة الأبديّة. هذا المقطع الإنجيليّ يصوّر لنا معاناة كلّ شابّة وشابّ في عالمنا اليوم. كلّهم قد يريدون أن يكونوا من الصّالحين، لكنّهم لا يعرفون الطّريق نحو الصّلاح، الأمر الّذي عبّر عنه الشّابّ بسؤاله: “أيّها المعلّم الصّالح، ماذا أعمل من الصّلاح لتكون لي الحياة الأبديّة؟”.
عالم اليوم تائه، وقد أصاب البشر بالضّياع. فمنهم من يرى الصّلاح من خلال عدم أذيّة الآخرين، والبعض الآخر يراه في احترام كبار السّنّ، أو محبّة الحيوانات والطّبيعة وسائر خلائق الله، أو الانقطاع عن أكل اللّحوم تعبيرًا عن تلك المحبّة. إلّا أنّ بعضهم، مع الخير الّذي يعملونه، لا يعترفون بوجود الله، بل بناموس طبيعيّ يربط بين البشر، وبين الخلائق كلّها. إذًا، ما يفرّق بين هذه الفئة من البشر، وبين المؤمنين المسيحيّين، أنّ المسيحيّ يربط بين الأفعال الحسنة، وبين محبّته لله الخالق، كما قال الرّسول بولس: “وكلّ ما عملتم بقول أو بفعل، فاعملوا الكلّ باسم الرّبّ يسوع، شاكرين الله الآب به” (كو 3: 17)، وأيضًا: “إذا كنتم تأكلون أو تشربون، أو تفعلون شيئًا، فافعلوا كلّ شيء لمجد الله” (1كو 10: 31). هذا ما كان يفعله الرّسل، عندما كانوا يشفون المرضى، لأنّهم ما كانوا يقومون بذلك باسمهم الشّخصيّ، أو باسم قوّة خارقة سحريّة، بل باسم الرّبّ ولمجده. لقد تعلّموا هذا الأمر من معلّمهم، الرّبّ يسوع المسيح، الّذي لم يقم بأيّ عمل قبل تقديمه الشّكر لله الآب، وإعلان أنّ كلّ ما يعمله من صلاح هو لكي يؤمن البشر. إذًا، من يفعل أفعالًا صالحة بعيدًا عن الرّبّ، إنّما يفعلها لمجده الخاصّ.
عندما يقوم البشر بأعمال الصّلاح من أجل مجدهم الشّخصيّ، يتوقّفون أمام أيّة صعوبة أو عائق. لهذا، ومع أنّ الشّابّ كان قد حفظ الوصايا، إلّا أنّه لم يستطع تطبيقها، خصوصًا عندما وصل الأمر إلى ماله وممتلكاته. طبعًا، شتّان بين الحفظ والتّطبيق. يستطيع البشر أن يحفظوا كلّ نواميس الكون ويجاهروا بها، لكنّهم عند التّطبيق يتراجعون أو يفشلون. عندما طلب الرّبّ يسوع من الشّابّ أن يبيع كلّ شيء يملكه وأن يوزّعه على المساكين، ثمّ يتبع الرّبّ، “حزن” لأنّه كان غنيًّا جدًّا. ما نفع الأموال إن لم تكن أداةً لإتمام أعمال الصّلاح؟ لقد خلق الله الإنسان وسلّمه إدارة كلّ موارد الأرض، لكنّ الإنسان نسي أنّ الله هو صاحب الأرض وما عليها، وأنّ الإنسان ليس إلّا وكيلًا، من المفترض أن يكون أمينًا. لذا، تذكّرنا الكنيسة بهذا الأمر في كلّ قدّاس إلهيّ، عندما نسمع الكاهن يعلن: “الّتي لك، ممّا لك، نقدّمها لك على كلّ شيء، ومن جهة كلّ شيء”. هنا، قد يقول قائل: “فلتوزّع الكنيسة ما لديها من أموال على الفقراء، قبل أن تعلّمنا ماذا نفعل!”. من يقول هذا يشابه الشّابّ الّذي حزن بسبب طلب الرّبّ. الكنيسة وكيل أمين، ليت المسؤولين يتعلّمون منها كيفيّة إدارة عطايا الله لها. فإلى جانب ما تقوم به من مساعدة “في الخفاء” (مت6: 3-4)، على حسب وصيّة معلّمها الصّالح، نجدها تؤمّن مساعدات دائمةً عبر المؤسّسات الّتي تنشئها، والّتي تؤمّن الكثير من فرص العمل والعلم. إلى ذلك، يجب ألّا ينسى كلّ مسيحيّ أنّه جزء من الكنيسة، وعندما يلوم الكنيسة فإنّه يلقي باللّوم على نفسه أوّلًا، ويوقع ذاته تحت حكم الدّينونة، خصوصًا إن كان لا يساعد أحدًا، وهو ذو مال كثير، عندئذ يكون كمن تكلّم عليهم الرّبّ في إنجيل اليوم قائلًا: “إنّ مرور الجمل من ثقب الإبرة لأسهل من دخول غنيّ ملكوت السّماوات”.
يا أحبّة، كثيرون يبتغون السّلام ولكن هل من سلام بعيدًا عن الرّبّ؟. يقول البعض إنّ العمل في حقل الله صعب ويحتاج نكرانًا للذّات، إلّا أنّهم تناسوا قول الرّسول بولس: “أستطيع كلّ شيء في المسيح الّذي يقوّيني” (في 4: 13). الرّبّ لا يتركنا وحدنا في الجهاد، وهو القائل: “لا أترككم يتامى” (يو 14: 18)، إلّا أنّه ينتظر منّا الخطوة الأولى نحوه، بملء حرّيّتنا، عندئذ نعاين حلاوة الحياة مع المسيح وفيه. الكنيسة وعت هذا الأمر، لذلك يوجد فيها “أبوّة روحيّة” كي لا يجاهد أحد بمفرده فيضلّ الطّريق بدلًا من أن يدخل الملكوت السّماويّ. لذلك لا داعي للخوف أو الخجل من الخطايا الّتي قد يقوم بها الشّباب بمعرفة أو عن جهل، بالقول أو بالفعل أو بالفكر. عليهم ألّا ينصتوا إلى صوت الشّيطان الّذي يبثّ اليأس في قلوبهم، مقنعًا إيّاهم بأنّهم لن يخلصوا. الرّسل سألوا الرّبّ يسوع: “من يستطيع إذًا أن يخلص؟!”، فأجابهم: “أمّا عند النّاس فلا يستطاع هذا، وأمّا عند الله فكلّ شيء مستطاع”. على الشّباب أن يعطوا فرصةً لعمل الرّبّ في حياتهم، من دون أحكام مسبقة.
يا أحبّة، نأسف أنّ الشّباب يثقون بزعماء أرضيّين أكثر من ثقتهم بالله الخالق. يثقون بزعماء لم يحسنوا إدارة البلد ولم يتقنوا المحبّة والعطاء، ولم يفسحوا للرّبّ مجال العمل في قلوبهم، زعماء يستغلّون الشّعب ومقدّرات البلد عوض أن يستغلّوا الوزنات المعطاة لهم من الرّبّ ويثمّروها ليتضاعف إنتاجهم ويكثر حصاد البلد. نحن نعاني من اللّامسؤوليّة وانعدام الأخلاق وقلّة الإيمان. نعاني من عدم السّعي نحو الصّلاح الّذي طلبه الشّابّ في إنجيل اليوم. نعاني من الاستهتار وعدم المحاسبة، ما يدفع مثلاً بعض المتعهّدين والمسؤولين عنهم إلى التّغاضي عن الطّرقات المظلمة والمفخّخة بالباطون والحفر، جاعلين إيّاها مصيدةً تخطف الشّباب وتيتّم الأطفال وتكسر قلوب الأهل والإخوة. نأسف أنّ الشّباب يهتفون بأرواحهم ودمائهم فداءً لزعماء لا يتألّمون لمعاناة البشر، بدل وضع كامل ثقتهم بربّ سفك دمه على الصّليب من أجل خلاصهم. نأسف أنّ الشّباب يهاجرون، عوض السّعي إلى إنقاذ وطنهم. يخبرنا الكتاب المقدّس أمرًا لا شكّ فيه، وهو أنّ الله “صادق” وأنّ كلّ إنسان “كاذب” (رو 3: 4). لذا، دعوة الرّبّ لنا في هذا اليوم المبارك، أن نترك كلّ شيء، وكلّ مستعبد، من بشر ومادّيّات، وأن نتبعه هو وحده الصّادق والمحبّ البشر، وأن نربط بين أعمال الصّلاح الّتي نقوم بها وبين المحبّة الّتي نتعلّمها منه، ناقلين إيّاها إلى كلّ من هو حولنا، آمين.”
يسوع الطبيب الشافي القدير
صلاة إلى يسوع الشافييا يسوع المسيح، الطبيب الإلهي والشافي القدير،نتقدم إليك اليوم بإيمان و…