عوده: هل يمكن لعاقل أن يتبع من جعل البلاد مزرعةً والبشر عبيدًا والأخلاق سلعةً فاسدة؟
تيلي لوميار/ نورسات
في تذكار قطع رأس يوحنّا المعمدان، أكّد متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده أنّ “بلدنا بحاجة إلى الصّدق والانتماء الحقّ وإلى صوت صارخ بالحقّ، كصوت المعمدان”، وذلك خلال عظته في قدّاس الأحد الّذي ترأّسه في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- بيروت، قال فيها:
“أحبّائي، تعيّد كنيستنا المقدّسة اليوم لتذكار قطع رأس النّبيّ الكريم والسّابق المجيد يوحنّا المعمدان. وقد لقّب بالسّابق لأنّه سبق يسوع وهيّأ الطّريق أمام مجيء الرّبّ وكان “صوت صارخ في البرّية أعدّوا طريق الرّبّ، إصنعوا سبله مستقيمةً” (لو 3: 4)، وبالصّابغ لأنّه عمّد يسوع قبل أن يبدأ بشارته.
قبل أن ينطلق الرّبّ يسوع في بشارته انطلق يوحنّا إلى برّيّة الأردنّ ليهيّء طريق المسيّا، وقد عاش في الفقر والصّوم، ومارس رسالته النّبويّة ضمن مجموعة من التّلاميذ، منادياً بالتّوبة، معمّدًا الشّعب التّائب بالماء بانتظار من سيعمّدهم بالرّوح. مات يوحنّا مستشهدًا على يد هيرودوس أنتيباس، إبن هيرودس الكبير الّذي تزوّج زوجة أخيه فيليبّس بطريقة غير شرعيّة، لأنّ الشّريعة تقول: “إذا أخذ رجل امرأة أخيه فذلك نجاسة” (لا 20: 21). هذا ما كان النّبيّ يوحنّا يذكّر الملك به، موبّخًا إيّاه، ما أغضب الزّوجة هيروديّا فانتظرت الفرصة المؤاتية لقتله. في البداية، لم تستطع هيروديّا أن تقتل يوحنّا “لأنّ هيرودس كان يخاف من يوحنّا لعلمه أنّه رجل بارّ وقدّيس، وكان يحفظه” (مر 6: 20). إلّا أنّ اليوم المنتظر كان يوم عشاء ميلاد الملك. هيروديّا العارفة نقطة ضعف الملك، استغلّت جمال ابنتها سالومي لكي تنال من النّبيّ الجريء. الملك المخمور، انبهر بجمال الصّبيّة الّتي رقصت أمامه، ووعد بمنحها كلّ ما تشاء، فدسّت والدتها في رأسها طلب رأس المعمدان، فلم يشأ الملك أن ينكث بوعده لئلّا يظهر صغيرًا أمام الوجهاء الحاضرين حفله، ونفّذ المطلب الماكر.
سمعنا في صلاة السّحر: “إنّ قطع رأس السّابق المجيد صار بتدبير ما إلهيّ، لكي يكرز للّذين في الجحيم بمجيء المخلّص، فلتنتحب إذًا هيروديّا الطّالبة القتل المخالف للشّريعة، لأنّها لم تؤثر شريعة الله، ولا أحبّت الحياة الأبديّة، لكنّها بالحريّ أحبّت الحياة الوقتيّة”. نتعلّم من هذا أنّ علينا أن نتقبّل كلّ ما يحدث في حياتنا كتدبير إلهيّ، ليس بمعنى أنّنا مسيّرون، بل بمعنى أنّ الرّبّ يسمح بحدوث أمور، أو يستغلّ بعض الأحداث، لكي يعلّمنا هذا يمكن أن يترجم فعليًّا في ما نعيشه في بلدنا الحبيب، حيث كثيرون يتعلّقون بالحياة الوقتيّة الفانية، فيحتكرون، ويخزّنون البضائع والأموال ويتحكّمون بالبشر، مشابهين هيروديّا القاتلة.
هيرودس أنتيباس كان ملكًا، وكان يتوجّب عليه أن يسير حسب الشّريعة ويحكم بالعدل، إلّا أنّ شهوته تغلّبت عليه، وكبرياءه جعله مجرمًا يقطع رأس من تفوّه بالحقيقة جهارًا. ألا تتحكّم شهوات عديدة بالزّعماء والحكّام؟ الكرسيّ والسّلطة والمصالح والأموال وسواها؟ ألا يفعل البعض فعل هيروديّا، ويبثّ سمّه في أذن المسؤول، فيقطع رأس الشّعب عوضًا عن المجرم الحقيقيّ؟ هل تمّت محاسبة أيّ من محتكري الأدوية، أو سواها من مقوّمات الحياة، الّتي يمنعونها عن الشّعب، وهم مجرمون يستحقّون العقاب؟ مؤسف أنّنا نعيش في بلد يذلّ فيه الضّعيف ويموت، فيما يستقوي الأقوياء بمن يغطّون سيّئاتهم ويتغاضون عن جرائمهم كالفساد والاحتكار والمتاجرة بأرزاق النّاس.
نأسف أن نكون في بلد يقمع صوت الحقّ، مثل هيروديّا، ويعمل على إسكات صاحبه بشتّى الوسائل غير المشروعة. نأسف أن ينظر في بلدنا إلى أهل الضّحايا على أنّهم المجرمون، بينما القتلة الحقيقيّون يسرحون ويمرحون ويتهرّبون من العدالة، والمجزرة لا تزال تحصد الرّوح تلو الأخرى، إن عن طريق الموت أو الهجرة. نأسف، في بلدنا، أن تبثّ أكثر من هيروديّا واحدة سمومها ضدّ الكنيسة، في آذان كثيرين، ينجرّون وراءها بدلا من أن يدركوا أنّ الكنيسة تحتضن الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله، وهي دومًا السّند الحصين له، تستمدّ قوّتها من الرّبّ رأسها، وليس من ساسة أو زعماء يريدون استغلالها للوصول إلى مبتغاهم. الكنيسة ترى في يوحنّا المعمدان مثالاً يحتذى في قول الحقّ بلا خوف من أحد. لهذا، سنبقى قاطعين كلمة الحقّ باستقامة، لأنّ الإنسان هو همّنا الأوّل، وهدفنا أن نصل به ومعه إلى الملكوت السّماويّ، حيث الفرح الّذي لا يزول.
صورة يوحنّا تعلّمني، وتعلّم كلّ إنسان عمّد على اسم الثّالوث القدّوس، التّواضع والأمانة والشّهادة للحقّ. يوحنّا لم يسكت عن الخطأ، ولم يحاب هيرودوس، بل أعلن له حقيقته دون مراءاة ولا خوف. يوحنّا أتى ليشهد للحقيقة، للنّور، وحيث يكون النّور تنتفي الظّلمة. لم يكن يوحنّا كثير الكلام بل كان كثير الأفعال. همّه كان أن ينقص ليزيد المسيح (يو 3: 30)، وحياته كلّها كانت شهادةً له. كان بإمكان يوحنّا أن يساوم وأن يساير هيرودوس طمعًا بمال أو بمركز أو رضى، لكنّه فضّل قول الحقيقة كاملةً دون أن يخشى الموت. لذلك إنّ المسيحيّ الحقيقيّ مدعوّ إلى قول كلمة الحقّ بمحبّة ودون خوف أو تردّد، وإن صمت يكون شريكًا في الشّرّ. من يطلب مجد النّاس لا يعرف مجد الله.
إنّ بلدنا يمرّ بما يمرّ به لأنّ الجميع يساومون على الحقّ وعلى كراماتهم وكرامة المواطن. لم تعد الحرّيّة والدّيمقراطيّة في لبنان سوى كلمات فارغة، لأنّ الدّيمقراطيّة لا ترافق إلّا النّفس الحرّة النّبيلة الّتي تحترم الذّات وتحترم الآخرين. هل تصدّقون من يكلّمكم عن الحقّ والعدل وهو يسرق حقوق الآخرين ويتاجر بأرواح النّاس وممتلكاتهم؟ هل تحترمون من يحتكر الطّعام والدّواء والمحروقات ويمنعها عن المحتاجين من أجل جني الأرباح؟ أو من يعطّل تشكيل حكومة نحن بأمسّ الحاجة إليها للخروج من المأزق، بسبب مصلحة أو مطلب؟ وهل يمكن لعاقل أن يتبع من جعل البلاد مزرعةً والبشر عبيدًا والأخلاق سلعةً فاسدة؟ وكيف لمواطن أن يصدّق من انتخبهم لحماية مصالحه والنّطق باسمه، فإذا بهم لا يفكّرون إلّا بمصالحهم ولا ينطقون إلّا بالغشّ، محوّلين حياته جحيمًا ومستقبله مجهولاً؟
يكفي يوحنّا فخر وكرامة أنّ يسوع شهد له أنّه “لم يقم بين المولودين من النّساء أعظم من يوحنّا” (متّى 11: 11)، وعظمته كانت في تواضعه، وفي صدقه واستقامته، وفي نطقه بالحقّ مدفوعًا بالرّوح القدس، تنير الأمانة دربه وتخطّ الشّهادة مصيره. علّنا نتّخذ يوحنّا مثالاً لنا في حياتنا لنكون على صورته وصورة الرّسل الّذين قال لهم يسوع: “وتكونون لي شهودًا” (أع 1: 8).
كيف تشهدون؟ عيشوا بحسب وصايا المسيح، أثبتوا فيه وليكن فيكم فكره. وطننا يعاني لأنّ المسيحيّ فيه لا يشهد كفايةً للمسيح المخلّص، ولأنّ اللّبنانيّ ليس أمينًا للحقّ بل يساوم ويهادن ويرائي، ويقبل الذّلّ ولا ينتفض على الباطل.
يا أحبّة، نسمع في نصّ رسالة اليوم عن أحوال الرّسل القدّيسين، الأمر الّذي يشبه ما آلت إليه حالنا. يقول الرّسول بولس: “إلى هذه السّاعة نحن نجوع ونعطش ونعرى ونلطم ولا قرار لنا، ونتعب عاملين، نشتم فنبارك، نضطهد فنحتمل، يشنّع علينا فنتضرّع. قد صرنا كأقذار العالم وكأوساخ يستخبثها الجميع”.
هذه حال كلّ مسيحيّ حقيقيّ على وجه الأرض، أينما وجد يهزأ بصبره ومحبّته وتواضعه وحلمه. المسيحيّ ليس إنسان شرّ وحروب، وكلّ من يجرّ المسيحيّين لأن يكونوا كذلك متذرّعًا بحقوق ومكتسبات إنّما هو غير مدرك تمامًا لمعنى المسيحيّة الحقيقيّة، الّتي تحمل الصّليب وتتبع مسيحها المصلوب إلى القيامة الحتميّة. عندما يقترب الأسقف أو الكاهن أو الشّمّاس إلى المناولة، يدعو نفسه “حقيرًا”، وبهذا التّنازل يستطيع أن يتّحد بجسد المسيح ودمه الكريمين. المسيح يرفع المتواضعين، ولا يقترب من المتبجّحين بمسيحيّتهم أو أفضليّتهم على غيرهم من بني البشر. فلا تصدّقوا أيّ متاجر بإسم المسيحيّة، بل صدّقوا المسيح فقط، وتمثّلوا بتواضع المعمدان وجرأته. بلدنا بحاجة إلى مسؤولين يعملون بصمت وأمانة وتواضع، وإلى شعب جريء يعرف حقوقه وواجباته جيّدًا ولا يسمح لأحد بإذلاله. بلدنا بحاجة إلى الصّدق والانتماء الحقّ وإلى صوت صارخ بالحقّ، كصوت المعمدان.
إخوتي الأحبّة، يا أبناء هذا الوطن الحبيب، أناشدكم بلسان القدّيس باسيليوس الكبير الّذي لفتني قول له كأنّه يتحدّث عن حال بلادنا: “لا تنتظر حتّى ينقص القمح لكي تفتح أهراءك، لا تغتنم الجوع لكي تربح ذهبًا، لا تنتظر عوزًا جماعيًّا لكي تغتني أنت، لا تكن تاجرًا بمصائب النّاس”. لا تكونوا مشاركين، عن معرفة أو عن غير معرفة، بما يحاك ضدّ الإنسان.
لا تستغلّوا آلام النّاس كي تغتنوا، ولا تكونوا مثل أغنياء الحرب الّذين تاجروا بحياة إخوتهم لكي يجنوا أموالاً طائلةً. لا تنسوا أنّ لكلّ أمر نهاية، تتمثّل في ظلمة القبر الّذي ندخله فارغي الأيدي. نسمع في خدمة الجنّاز: “لنخرج وننظر في القبور أنّ الإنسان عظام مجرّدة ومأكل للدّود ورائحة نتنة، ولنعرف ما هو الغنى، ما هو الجمال، وما هي القوّة والبهاء”. إنّ ذكر الموت في المسيحيّة أمر مهمّ جدًّا، لأنّه يحمينا من الانغماس في الخطايا، ويجعلنا نعيش توبةً دائمة. كلّ ما نخزّنه على هذه الأرض، سيبقى عليها، وسيستفيد منه آخرون، فلماذا يخزّن الإنسان ما سيفسد، ولا يخزّن له حياةً أبديّةً في الملكوت السّماويّ؟ أحبّوا إخوتكم الّذين هم بأشدّ الحاجة إليكم، ولا تنكّلوا بهم متشبّهين بالظّالمين الّذين لا يأبهون سوى لأنفسهم ما يأكلون وما يشربون وما يخزّنون.
إنّ سيرة النّبيّ العظيم يوحنّا المعمدان تدعونا لكي نكون صارخين بالحقّ في صحراء هذا العالم الجائر، حتّى ولو أدّى ذلك إلى أذيّتنا أو تشويه سمعتنا. بالحقّ تتحرّرون، لذا تمسّكوا بالحقّ، لأنّ تمسّككم به هو تعلّق بالمسيح الّذي هو الطّريق والحقّ والحياة، آمين.”
يسوع الطبيب الشافي القدير
صلاة إلى يسوع الشافييا يسوع المسيح، الطبيب الإلهي والشافي القدير،نتقدم إليك اليوم بإيمان و…