يسوع المسيح مُحرِّرُ الإنسان
المصدر: "النهار" - المطران كيرلس بسترس
المصدر: “النهار” – المطران كيرلس بسترس
إنّ ربّنا يسوع المسيح، في حياته، حرّر الإنسان من عبوديّة المال، وعبوديّة الخطيئة، وعبوديّة الشريعة، وعبوديّة شهوة السلطة، وفي قيامته حرَّر الإنسان من عبوديّة الموت. فعن عبوديّة المال قال: “لا يستطيع أحدٌ أن يكونَ عبدًا لسيّدَيْن: فإنّه إمّا أن يُبغضَ الواحدَ ويُحِبَّ الآخر، وإمّا أن يلزمَ الواحدَ وينبذَ الآخر. فإنّكم لا تستطيعون أن تكونوا عبيدًا لله وللمال” (متى 24:6). ويروي مثلَ غنيٍّ أخصبتْ أرضُه، فقرَّر هدمَ أهرائه وبناءَ أكبرٍ منها، وراح يقول لنفسه: “يا نفسُ، إنّ لكِ خيراتٍ كثيرةً، مُدَّخَرةً لسنين كثيرة. فاستريحي، وكلي، واشربي، وتنعَّمي. فقال له الله: يا أحمق، إنّكَ في هذه الليلة تُطلَب منك نفسُكَ. فهذا الذي أعددتَه لمن يكون؟ ذلك ما يحدث للذي يكنز لنفسه ولا يغتني لدى الله” (لوقا 16:12-21).
وعن عبوديّة الخطيئة قال: “الحقَّ الحقَّ أقول لكم إنّ من ارتكب الخطيئة كان عبدًا للخطيئة. والعبد لا يُقيم في البيت على الدوام، بل الابنُ يُقيم على الدوام. وإذا حرَّركم الابنُ صرتم بالحقّ أحرارًا” (يوحنّا 34:8-36).
وعن عبوديّة الشريعة، قال: “إنّ السبتَ جُعِل لأجل الإنسان لا الإنسانُ لأجل السبت” (مرقس 27:2). وفي هذا السياق قال عن شرائع الوضوء والأطعمة النجسة: “اسمعوا لي كلُّكم وافهموا. إنّ ما من شيءٍ ممّا هو خارج الإنسان إذا دخل الإنسانَ يُنجِّسُه، بل ما يخرج من الإنسان هو الذي يُنجِّس الإنسان… لأنّه من الباطن، من قلوب الناس، تنبعث النيّات الشرّيرة: الفسقُ والسرقةُ والقتل، الزنى والطمعُ والخبث، المكرُ والفجورُ والحسد، الاغتيابُ والكبرياءُ والسَّفَه. كلُّ هذه القبائح من باطن الإنسان تخرج وهي تُنجِّسه” (مرقس 14:7-23).
وعن عبوديّة شهوة السلطة قال: “تعلمون أنّ رؤساءَ الأمم يسودونهم، والعظماءَ يتسلَّطون عليهم. وأمّا أنتم فلا يكنْ فيكم مثلُ هذا، بل من أراد أن يكونَ فيكم كبيرًا فليكنْ لكم خادمًا، ومن أراد أن يكونَ الأوّلَ فيكم فليكنْ لكم عبدًا. كما أنّ ابنَ البشر لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدُمَ وليبذلَ نفسَه فديةً عن كثيرين” (متى 20:20-28). الرئاسة، في نظر السيّد المسيح، خدمةٌ، وكلُّ خدمةٍ لا بدَّ أن يرافقَها الألَم.
وأخيرًا، بقيامته من بين الأموات، حرَّر السيّد المسيح الإنسانَ من عبوديّة الموت. هذا ما تحتفل به المسيحيّة في عيد الفصح. كلمة “فصح” تعني في العبريّة العبور. فعيد الفصح عند اليهود هو ذكرى عبورهم على يد موسى النبيّ من العبوديّة في مصر إلى السيادة في أرض الميعاد لعبادة الله بحريّة. الفصح، في المسيحيّة، هو ذكرى عبور السيّد المسيح من الموت إلى الحياة، إذ إنّه في اليوم الثالث لصلبه قام من بين الأموات وتراءى حيًّا لتلاميذه، وأرسلهم للكرازة بقيامته لدى جميع الأمم. واستنادًا إلى هذه الذكرى يحتفل المسيحيّون بعبورهم مع المسيح من عبوديّة الموت إلى حريّة الحياة الإلهيّة.
إنّ تحريرَ اليهود قد تمّ على أثر مسيرةٍ طويلةٍ في الصحراء دامت أربعين سنة. فلم يصلوا إلى سيادة وطنهم إلاّ بعد أن جابهوا ممالك عدة، كما تحمّلوا الجوعَ والعطش والحرَّ والبرد، ولسعاتِ الأفاعي. ويذكر سفر الخروج أنّ الشعبَ لكثرة ما عاناه تذمّر على موسى وهرون وقال لهما: “ليتنا مُتنا بيد الربّ في أرض مصر، حيث كنّا نجلس عند قِدْر اللحم ونأكل من الطعام شِبعَنا، في حين أنّكما أخرجتُمانا إلى هذه البرّيّة لتُميتا هذا الجمهورَ كلَّه في الجوع” (خروج 3:16).
مَنْ يتأمّل الوضعَ البائسَ الذي وصل إليه لبنان على مختلف الأصعدة الماليّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة لا يمكنه إلاّ أن يستخلصَ أنّ لبنان قد حكمه في هذه السنوات الأخيرة حكّامٌ بعضُهم عبيدٌ للمال وبعضهم عبيدٌ للخطيئة وبعضهم عبيدٌ للشريعة والبعض الآخر عبيدٌ لشهوة السلطة. هؤلاء جميعًا لم يهتمّوا لا لخير الوطن ولا لخير المواطنين، بل كان جلُّ همِّهم تأمين مصالحهم الخاصّة. هناك أيضًا بعض اللبنانيّين يدّعون السيادةَ، لكنّهم في الواقع عبيدٌ لبلدٍ غريب، كما كان اليهود عبيدًا لفرعون. فلا تُهمِّهم سيادة وطنهم، بل ما يُهِمُّهم هو فقط ما يحصلون عليه من “لحمٍ” وافرٍ يأتيهم من بلدٍ غريب، “ليأكلوا من الطعام شِبعَهم”.
لا خلاص للبنان إلاّ بتحرُّر حكّامه من كلّ هذه العبوديّات، ولا سيّما من العبوديّة لأيّ بلدٍ آخر. حينئذ يرأف بنا الله ويتاحُ للبنان تحقيق الهدف الذي من أجله أُنشئ من مئة سنة: أن يكونَ بلد السيادة والحريّة والكرامة الإنسانيّة.
الأربعاء من الأسبوع السابع بعد عيد الصليب
إنجيل القدّيس متّى 18 : 23 – 35 قالَ الرَبُّ يَسوع: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَات…