‫‫‫‏‫ساعتين مضت‬

آوا الثّالث: التّعايش ليس وصفة جاهزة بل عمليّة مستمرّة تتطلّب إرادة وحوارًا وتعاونًا

تيلي لوميار/ نورسات

“التّعايش ليس “وصفة جاهزة”، بل هو عمليّة مستمرّة تتطلّب إرادة حقيقيّة، وصدقًا تامًّا في الحوار، واستعدادًا للتّعاون”. هذا ما شدّد عليه بطريرك كنيسة المشرق الآشوريّة في العراق والعالم مار آوا الثّالث خلال كلمته في “ملتقى ديانا الثّاني للعيش المشترك” الّذي نظّمه مركز ديانا الثّقافيّ الآشوريّ وجامعة سوران، تحت عنوان: “قيمة الإنسان فوق كلّ الفوارق”.

وفي هذه الكلمة قال البطريرك آوا الثّالث، بحسب إعلام البطريركيّة:

“إنّه لمن دواعي سروري أن أشارككم جميعًا في ملتقى ديانا الثّاني للتّعايش المشترك، وفي المستهلّ، أعرب عن امتناني لكلّ من جامعة سوران ومركز ديانا الثّقافيّ الآشوريّ لرعايتهما المشتركة لحدث اليوم. إنّ شعار تجمّعنا اليوم يحدّد الغاية الّتي اجتمعنا جميعًا من أجلها هنا: “قيمة الإنسان فوق كلّ الفوارق”. هذا الشّعار ليس مجرّد مقولة، بل هو حجر الزّاوية لمجتمع مستقرّ ومزدهر وأخلاقيّ.

قبل عام مضى، اجتمعنا في هذا الملتقى نفسه لرسم آفاقنا وتطلّعاتنا المشتركة. واليوم، نجتمع بأمل والتزام متجدّدين، وبفهم عمليّ مفاده أنّ الطّريق إلى الوئام الحقيقيّ ليس سهلًا ولا تلقائيًّا.

إدراكنا الأوّل، وربّما الأكثر أهمّيّة، يجب أن يكون ما يلي: التّعايش ليس “وصفة جاهزة”، بل هو عمليّة مستمرّة تتطلّب إرادة حقيقيّة، وصدقًا تامًّا في الحوار، واستعدادًا للتّعاون. إنّه ليس وثيقة سياسات تُوقّع ثمّ تُحفظ في الأدراج؛ إنّه ممارسة يوميّة، وحوار متواصل، والتزام يجب أن نجدّده كلّ صباح. يتطلّب التّعايش الحقيقيّ أن نتجاوز الشّكاوى السّطحيّة وأن ننخرط بإرادة صادقة لفهم واحترام بعضنا البعض. إنّه يتطلّب الصّراحة في الحوار لمناقشة الحقائق الصّعبة دون الانزلاق إلى الصّراع أو إثارة الجدال العقيم، والاستعداد للتّعاون لتحقيق الأهداف المشتركة، مبرهنين بذلك على أنّ مصالحنا المشتركة أقوى من هويّاتنا المنفصلة.

تتطلّب هذه الطّبيعة المستمرّة تحوّلًا في كيفيّة مقاربتنا لجهودنا. يجب أن ندرك أنّ المبادرات لا بدّ أن تكون طويلة الأمد، وليست مجرّد “أفعال موسميّة”- لأنّ بناء الثّقة والتّعايش الحقيقيّ يتطلّب وقتًا واستدامةً وموارد. إنّ الطّفرة المفاجئة في النّشاط قبل الانتخابات أو العطلات، والّتي يعقبها صمت، ليست استراتيجيّة للسّلام. فالثّقة تُبنى بشكل تراكميّ، من خلال مشاركة متّسقة وموثوقة ومستدامة. إنّها تتطلّب تخصيص موارد كافية- ليس ماليّة فحسب، بل فكريّة وبشريّة أيضًا- والتزامًا بالاستدامة يضمن استمرار برامجنا لما بعد دورات تمويلها الأوّليّة. نحن نضع أساسًا، والأساس المتين يُبنى ببطء، لبنة تلو الأخرى وبكثير من الصّبر.

إنّ الأرضيّة الأكثر خصوبة لهذه اللّبنات هي عقول الجيل القادم. ولهذا السّبب يعتبر التّعليم ورفع الوعي حول قيمة التّنوّع والتّعدّديّة أمرين جوهريّين: إذ تلعب المدارس والجامعات ووسائل الإعلام دورًا مهمًّا في تشكيل جيل يحترم الاختلافات. الصّفّ الدّراسيّ هو أوّل مجتمع متنوّع يواجهه الطّفل، ويجب أن يكون مرآة للعالم الّذي نودّ بناءه. يجب علينا أن نواجه بفاعليّة العزلة والأحكام المسبقة الّتي قد تتجذّر في وقت مبكر.

رعاية حديقة التّنوّع

إنّ مسؤوليّة التّعليم تتعدّى مجرّد الاعتراف بالاختلاف أو الفوارق؛ بل يجب أن ترتقي نحو الاحتفاء بالتّعدّديّة والتّنوّع الثّقافيّ.

وعليه، ينبغي للمناهج الدّراسيّة أن تعزّز قيم التّعايش، واحترام الآخر، والتّسامح، والحقّ في الاختلاف- حتّى يتشرّب الطّلّاب منذ نعومة أظفارهم رؤية التّعدّديّة كواقع إيجابيّ في المجتمع البشريّ. يجب أن نعلم أطفالنا ألّا يكتفوا بمجرّد “تحمّل” الاختلافات- وكأنّها عبء- بل أن يحترموها بصدق، وأن يدركوا أنّ التّنوّع ليس ضعفًا يجب إدارته، بل هو قوّة حيويّة وإثراء لحياتنا الثّقافيّة والاقتصاديّة والفكريّة المشتركة. إنّ المنهج التّعليميّ الّذي يرسّخ هذه المبادئ يضمن أن ينظر الجيل القادم إلى فسيفساء مجتمعهم بفخر، لا بريبة أو شكّ.

ويجب أن يتردّد صدى هذه الرّسالة في أرجاء المجتمع الأوسع. علينا أن نضمن باستمرار توعية المجتمع بأنّ الاختلافات في الدّين و/أو العرق لا تبرّر التّمييز في الحقوق أو الكرامة الإنسانيّة. إنّ المبدأ الأساسيّ المتمثّل في “القيمة الإنسانيّة فوق كلّ الاختلافات” يعني أنّ الوصول إلى العدالة، والتّوظيف، والتّعليم، والأمن لا يمكن أن يكون مشروطًا بخلفيّة الفرد. فالتّمييز هو هجوم على العقد التّأسيسيّ للمجتمع، وهو يضعف الجماعة لصالح قلّة إقصائيّة. إنّ لكلّ فرد في هذا المجتمع حقًّا أصيلًا وغير قابل للتّصرّف في الكرامة الإنسانيّة، وهبه إيّاه الله خالقنا جلّ جلاله، ويجب صون هذا الحقّ دون استثناء.

ولوَضع هذا المبدأ حيّز التّنفيذ، يجب علينا تمكين هياكل الحوار والشّراكة. إنّني أحثّنا جميعًا على دعم منظّمات المجتمع المدنيّ الّتي تضمّ ممثّلين عن مختلف الأعراق والأديان، لكي تكون منصّات للحوار المستمرّ، والتّعاون، ومبادرات التّنمية المشتركة. تُعدّ هذه المنظّمات محرّكات التّغيير المجتمعيّ. فهي تترجم السّياسات العليا إلى عمل محلّيّ ملموس، وتخلق مساحات يمكن فيها للجيران والمواطنين- لا المسؤولين فقط- أن يجلسوا معًا لبناء الثّقة والتّعاون في مشاريع عمليّة ترتقي بمجتمعاتنا في شتّى مجالات الحياة والمجتمع البشريّ. إنّهم يثبتون أنّنا قادرون على العمل معًا من أجل المنفعة المتبادلة.

علاوة على ذلك، يجب علينا تعزيز مبدأ “المسؤوليّة الاجتماعيّة المشتركة” على نطاق شامل: إذ ينبغي لكلّ فرد، بغضّ النّظر عن خلفيّته، أن يشعر بأنّه شريك في بناء المجتمع، وحماية حقوق الآخرين، والمساهمة في التّنمية الجماعيّة. عندما يشعر الأفراد بأنّ صوتهم مسموع وأنّ مساهمتهم مُقدّرة، فإنّهم يستثمرون أنفسهم في مصير الجماعة. وهذا الشّعور بالشّراكة هو التّرياق ضدّ الاغتراب والتّطرّف. وحين نحمي حقوق الآخرين، فإنّنا في الواقع نحمي المبدأ ذاته الّذي يضمن حقوقنا نحن. وبعبارة أخرى، نحن جميعًا مسؤولون عن سلامة الكلّ ورفاهيّته.

قوّة الذّاكرة الجماعيّة والإعلام

إنّ روح الشّراكة الّتي نسعى لبنائها مرتبطة ارتباطًًا وثيقًا بفهمنا للماضي. ولكي نمضي قدمًا معًا، يجب أن نعترف بالتّاريخ الّذي نتشاركه- وهو تاريخ غالبًا ما يكون معقّدًا، وأحيانًا مؤلمًا، ولكنّه دائمًا مشترك.

يقودنا هذا إلى الحاجة الماسّة لتوثيق التّاريخ المشترك لمختلف مكوّنات المجتمع، من خلال الكتب والبحوث والأرشيفات والمعارض والأفلام الوثائقيّة، لتذكير الجميع بأنّهم جزء من تاريخ واحد. غالبًا ما يُدرَّس التّاريخ من خلال عدسة أحاديّة وانتقائيّة. لذا، يجب علينا فتح الأرشيفات ودعم البحوث لتوثيق لحظات التّعاون، والرّوابط الثّقافيّة، والنّضالات الجماعيّة الّتي شملت جميع مجتمعاتنا. عندما ندرك أنّ أجدادنا قاتلوا جنبًا إلى جنب، وعملوا جنبًا إلى جنب، وبنوا الوطن معًا، فإنّ الانقسامات المفتعلة في الحاضر ستبدأ في الانهيار.

ويجب أن يتبنّى القائمون على الإعلام والتّواصل في عصرنا المبدأ ذاته فيما يخصّ السّرديّة المشتركة. ينبغي لنا أن نشجّع وسائل الإعلام المحلّيّة بفاعليّة على إنتاج برامج وأفلام وثائقيّة حول التّعايش، وتاريخ المجتمعات، والتّنوّع الاجتماعيّ، لتعزيز التّفاهم والتّعاطف بين النّاس. للإعلام القدرة إمّا على التّفريق أو التّوحيد. يمكنه تغذية التّحيّز من خلال الإثارة، أو يمكنه بناء الجسور من خلال القصص الإنسانيّة. دعونا ندعم الصّحفيّين والمنتجين الّذين يختارون المسار الثّاني- أولئك الّذين يروون قصص التّعاون اليوميّ، ويبرزون ثراء الممارسات الثّقافيّة المختلفة، ويخلقون التّعاطف من خلال إظهار الإنسان الكامن خلف التّصنيف العرقيّ أو الدّينيّ.

لتعزيز ذلك، يجب علينا أيضًا تشجيع المبادرات التّعليميّة أو الثّقافيّة الّتي تعكس هذا التّراث المشترك، ممّا يرسّخ هويّة جماعيّة ويقلّل من العزلة الثّقافيّة. فالمهرجانات، والمشاريع الفنّيّة المشتركة، والمعارض المنظّمة بشكل تعاونيّ، والفعاليّات الرّياضيّة الّتي تجمع مختلف الفئات، يمكنها جميعًا أن تخدم هذا الغرض. هذه المبادرات ليست دروسًا تاريخيّة جامدة؛ بل هي تجارب حيّة ومبهجة تبرهن على إنسانيّتنا المشتركة، وتخلق هويّة جماعيّة شاملة هي أقوى من أيّ مكوّن منفرد لوحده. إنّها تتيح لنا الاحتفاء باختلافاتنا مع الإقرار بوحدتنا الجوهريّة.

إنّ خلق ثقافة للتّعايش يتطلّب نهجًا يشمل المجتمع بأسره، أيّ تحالفًا كبيرًا يضمّ المؤسّسات والقادة والمواطنين على حدّ سواء.

إلتزام جماعيّ نحو المستقبل

إنّ الخطوة الأخيرة الضّروريّة هي مأسسة التزامنا. يجب علينا أن نتجاوز النّوايا الحسنة وننشئ آليّات عمل ملموسة لتطوير السّياسات.

بالتّحديد، يجب علينا تعزيز التّعاون بين السّلطات (على المستويات القانونيّة والتّعليميّة والثّقافيّة) والمؤسّسات والمجتمع المدنيّ والمكوّنات الدّينيّة، وذلك لتطوير سياسات تعزّز التّعايش وتُكافح التّمييز. فعندما تتّفق جميع قطاعات المجتمع، من المشرّعين إلى قادة الأديان، على رؤية مشتركة، يصبح التّقدّم أمرًا حتميًّا. هذا يعني صياغة سياسات تعاونيّة تضمن أنّ القوانين ليست فقط خالية من التّمييز، بل تعزّز بنشاط الإنصاف والاندماج في كلّ مجالات المجتمع.

علاوة على ذلك، فإنّ التّمثيل له أهمّيّة قصوى. من الضّروريّ أن نعزّز مشاركة ممثّلين عن جميع المكوّنات في الحكومات المحلّيّة ومناصب صنع القرار. فعندما تكون الأصوات المتنوّعة حاضرة على طاولة صنع القرار، تكون السّياسات أكثر عدالة وفاعليّة وتمثيلًا للمجتمع الّذي صُمّمت لخدمته. إنّ الإدماج في الحكم ليس مجرّد مجاملة؛ بل هو ضرورة لحكم شرعيّ ومستقرّ.

وأخيرًا، ندرك التّأثير الهائل للسّلطة الأخلاقيّة. يجب أن نشرك القادة الدّينيّين والأكاديميّين في جهود التّوعية، لأنّ لديهم تأثيرًا قويًّا في المجتمع ويمكنهم تعزيز ثقافة الاحترام والتّعايش. يحظى هؤلاء القادة بأعمق ثقة مجتمعاتهم. إنّ رسائلهم الواضحة والمتّسقة الّتي تدين الكراهيّة، وتعزّز الاحترام المتبادل، وتشدّد على القيم الإنسانيّة العالميّة المشتركة بين جميع أدياننا الكبرى وأنظمتنا الأخلاقيّة، لا غنى عنها في صياغة القلوب والعقول.

أيّها الأصدقاء، إنّ المبادئ الّتي ناقشناها اليوم- من العمل طويل الأمد والتّعليم الشّامل إلى توثيق تاريخنا المشترك وضمان التّمثيل السّياسيّ- هي الخارطة الطّريق لمجتمع أكثر قوّة. وهي كلّها متجذّرة في الاعتقاد بأنّ قيمة الإنسان هي بالفعل فوق كلّ الاختلافات الّتي قد توجد بيننا. فلنغادر هذا الملتقى اليوم ليس بمجرّد قرارات، بل بالتزام متجدّد وعمليّ وطويل الأمد لبناء المستقبل المزدهر والمتناغم الّذي يستحقّه جميع مواطنينا.”

‫شاهد أيضًا‬

هكذا يشكر مستشفى الصّليب الله على زيارة البابا التّاريخيّة!

تيلي لوميار/ نورسات يرفع أصدقاء جمعيّة راهبات الصّليب في لبنان الشّكر لله على زيارة البابا…