فبراير 6, 2021

الإنسان رجاء الله

إنّ العلاقة بين الإنسان والله يختلف تصوّرها بحسب اختلاف الأديان. ففي العهد القديم كان الناس يعتقدون أنّ الله لا يمكن إرضاؤه إلاّ بتقديم ذبائح حيوانات على هيكله.

فالخطايا التي يرتكبها الإنسان تُهين الله، وسفك الدم هو الوسيلة الوحيدة للتكفير عن الخطايا. ومع الوقت أدرك الأنبياء أنّ الخطيئة في جوهرها تقوم على تمسّك الإنسان بإرادته الخاصّة ورفض إرادة الله. فأكّدوا أن الطريقة الوحيدة للتكفير عن الخطايا لا تكمن في أن يقدّم الإنسان ذبائح حيوانات بل أن يقدّم ذاته ذبيحة، فيتخلّى عن إرادته الخاطئة ويعتنق إرادة الله.

وهذا ما عبّر عنه المزمور الخمسون: “لأنكَ لو شئتَ ذبيحةً لقدّمتُ، لكنّكَ لا ترتضي بمحرقات، إنّما الذبيحة لله روحٌ منسحقٌ، لا يرذل الله قلبًا منسحقًا ومتواضعًا”. فالله هو الحقيقة المطلَقة والخير المطلَق، والخطيئة هي ابتعادٌ عن هذه الحقيقة ورفضٌ لهذا الخير، وهذا الابتعاد هو أمرٌ تمتدّ جذوره إلى عمق قلب الإنسان، الذي منه تصدر كلّ قرارات الإنسان ونواياه الحسنة والرديئة.

فالتكفير يقوم على اهتداء القلب إلى الله.  بهذا الاهتداء يرتدّ الإنسان عن خطيئته، ويتوب، أي يعود إلى الله لتتميم إرادته. فالخطيئة هي دومًا اتّباع طريق خاطئ لا يؤدّي إلى سعادة الإنسان بل إلى هلاكه، لا إلى حياته بل إلى موته. فالله لم يخلق الإنسان للموت بل للحياة، وهو لا يريد أن يهلك الإنسان بل أن يحيا، كما أوضح ذلك السيّد المسيح بقوله: “لم يُرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلّص به العالم” (يوحنا 17:3). وهذا الخلاص يقوم على تحرير الإنسان من عبوديّته للخطيئة،  وإدخاله في ملكوت المحبّة، ملكوت أبناء الله. لذلك لم يعدْ أيّ معنى للذبائح التي كانت تُقدَّم خوفًا من دينونة الله.

فالله محبّة، ولا يريد من الإنسان إلاّ أن يبادلَه المحبّة. والمحبّة من طبيعتها لا تُفرَض، بل هي جوابٌ حرّ يعطيه الإنسان بملء إرادته. هذا الجواب الحرّ ينتظره الله من الإنسان. ففي نظر يسوع، ليس الله هو الذي يهدّد الإنسان، بحيث يكون الإنسان ضحيّة إهمال الله له؛ بل الإنسان هو الذي يهدّد الله، بحيث يقع الله ضحيّة الإنسان الذي يرفضه.

ذلك على مثال الحقيقة التي لا يمكنها أن تُرغِم الإنسان على قبولها، فلا يسعها إلاّ أن تعرض ذاتها عليه. فإن رفضها أو شوّهها، تكون هي ضحيته. وكذلك المحبّة، مهما كانت عميقة، لا طاقة لها على فرض ذاتها على الإنسان. فإن رفضها تكون هي أيضًا ضحيّته. وُجدتْ على حجر أحد القبور كتابةٌ تقول: “الإنسانُ رجاءُ الله”. الله يعرض الحقيقة وطريق الخير والصلاح على الإنسان، وما رجاؤه إلاّ أن يقبلهما الإنسان ويطبّقهما في حياته. الله يعرض محبّته على الإنسان وما رجاؤه إلاّ أن يتجاوب الإنسان معها.

ماذا ترجو الحقيقة من الإنسان إلاّ أن يقبلها؟ وماذا ترجو المحبّة من الإنسان إلاّ أن يتجاوب معها؟ ماذا كان يرجو يسوع من أورشليم إلاّ أن تقبلَ رسالته. فقال لها: “يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسَلين إليها، كم من مرّة أردتُ أن أجمع بنيكِ كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، فلم تُريدوا. فها هوذا بيتكم يُترَك لكم خرابًا” (متى 37:23).   الله واقفٌ باستمرار على باب قلبنا، وما رجاؤه إلاّ أن نفتح له قلبنا: “ها أناذا واقفٌ على الباب، وأقرع، فإنْ سمع أحدٌ صوتي، وفتح الباب، أدخل إليه، فأتعشّى معه، وهو معي” (الرؤيا 20:3). وفي المعنى عينه قال يسوع: “مَنْ كان عطشانَ فليأتِ إليّ، ومَنْ آمن بي فليشربْ، فإنّه، كما قال الكتاب، ستجري من جوفه أنهار ماء حيّ”.

ويُضيف الإنجيل: “قال هذا عن الروح الذي سيقبله المؤمنون به، فإنّ الروح لم يكن قد أُعطي بعد، لأنّ يسوع لم يكن قد مُجِّد بعد” (يوحنّا 37:7-39).  الذين يرفضون دعوة الله إلى الحقيقة وإلى المحبّة “يُعيدون، بأنفسهم، صلبَ ابن الله، ويُشهّرونه” (عبرانيّين 6:6). لكنّ الله الذي هو الحقيقة المطلقة والمحبّة الدائمة يبقى على الدوام ينتظر جواب الإنسان. من هنا لا تعني التوبة مجرَّد تعداد للخطايا التي ارتكبها الإنسان بقدر ما تعني الندامة عن كلّ مرّة رفض فيها قبول حقيقة الله والتجاوب مع محبّته، وتعني في الوقت عينه توجّهًا جديدًا يعود به الإنسان إلى الله الذي هو ملء الحقيقة وكمال المحبّة.

وهكذا يُتمّ الإنسان مسيرته على هذه الأرض وهو على يقين من أنّ الحقيقة قد أوكِلتْ إليه وأنّ المحبّة قد أودِعتْ بين يديه. بهذا المعنى يصحّ القول إنّ مصير الله في العالم هو بين يدي الإنسان. كما يصحّ القول “إنّ الإنسانَ هو رجاءُ الله”.

‫شاهد أيضًا‬

برنامج الزّيارة الرّسوليّة لقداسة البابا لاوُن الرَّابع عشر إلى تُركيّا ولبنان

برنامج الزّيارة الرّسوليّة لقداسة البابا لاوُن الرَّابع عشر إلى تُركيّا ولبنان يقوم قداسة …