مارس 11, 2023

التأمل الثاني لزمن الصوم مع واعظ القصر الرسولي

التأمل الثاني لزمن الصوم مع واعظ القصر الرسولي

موقع الفاتيكان نيوز

“إنَّ الشرارة تجاه شخص يسوع لن تتّقد أبدًا في الشخص الذي يُصغي إلى رسالة الإنجيل ما لم تكن قد اشتعلت أولاً في الشخص الذي يعلنها”

هذا ما قاله واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا في تأمّله الأوّل لزمن الصوم

ألقى واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا صباح الجمعة تأمّله الثاني لزمن الصوم في قاعة بولس السادس بالفاتيكان، تحت عنوان “البِشارة هي قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن”. واستهل الكاردينال كانتالاميسا تأمّله بالقول من الإرشاد الرسولي “إعلان الإنجيل” للقديس بولس السادس وصولاً إلى الإرشاد الرسولي “فرح الإنجيل” للبابا فرنسيس، كان موضوع البشارة في محور اهتمام السلطة البابوية التعليمية. وقد ساهمت فيه أيضًا الرسائل العامة الكبرى للقديس يوحنا بولس الثاني، وكذلك إنشاء المجلس الحبري للبشارة، الذي عززه البابا بندكتس السادس عشر. ويمكننا أن نلاحظ الاهتمام عينه في العنوان الذي أُعطي لدستور إصلاح الكوريا الرومانية “Praedicate Evangelium” وفي التسمية “دائرة البشارة”، التي أُعطيت لمجمع انتشار الإيمان سابقًا. والهدف عينه قد أُعطي الآن بشكل رئيسي لسينودس الكنيسة. ولذلك أود أن أكرس تأمل اليوم للبشارة أيضًا.

تابع واعظ القصر الرَّسوليّ يقول إنَّ التعريف الأقصر والأكثر أهمية للبشارة هو الذي نقرأه في رسالة القديس بطرس الأولى، والتي يصف فيها الرسل بأنهم: الَّذينَ بَشَّروا بالإنجيل، يؤَيِّدُهُمُ الرّوحُ القُدُسُ. في هذا التعريف نجد جوهر البشارة، أي مضمونها – الإنجيل – وأسلوبها – بتأييد الروح القدس. ولكن لكي نعرف ما المقصود بكلمة “إنجيل”، فإن الطريقة الأكثر أمانًا هي أن نسأل الشخص الذي استخدم هذه الكلمة اليونانية أولاً وجعلها قانونية في اللغة المسيحية، أي القديس بولس الرسول. نحن محظوظون لأننا نملك رسالة له يشرح فيها ما يعنيه بـكلمة “إنجيل”، وهي الرسالة إلى أهل روما. وهو يعلن عن الموضوع بالكلمات التالية: “فإِنِّي لا أَستَحيِي بِالبِشارة، فهي قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن”. ومن أجل نجاح كل جهد جديد في البشارة، من الضروري أن نوضح النواة الأساسية للبشارة المسيحية، وهذا الأمر لم يبرزه أحد بشكل أفضل من القديس بولس الرسول في الفصول الثلاثة الأولى من الرسالة إلى أهل روما. ويمكن تلخيص رسالة الرسول في تلك الفصول الثلاثة الأولى من رسالته في نقطتين: أولاً، ما هو وضع البشرية أمام الله بعد الخطيئة؟ ثانيًا، كيف يخرج المرء منه، أي كيف نُخلَّص بالإيمان ونُصبح خليقة جديدة. لنتبع القديس بولس في تفكيره الوثيق. لا بل لنتبع الروح الذي يتكلم من خلاله: “فقَد ظَهَرَ غَضَبُ اللّهِ مِنَ السَّماء، غَضَبُ اللهِ على كُلِّ كُفْرٍ وظُلْم يأتي بِه النَّاس، فإِنَّهم يَجعَلونَ الحَقَّ أَسيرًا لِلظلُّمْ، لأَنَّ ما يُعرَفُ عنِ اللهِ بَيِّنٌ لَهم، فقَد أَبانَهُ اللهُ لَهم. فمُنْذُ خَلْقِ العالَم لا يَزالُ ما لا يَظهَرُ مِن صِفاتِه، أَي قُدرَتُه الأَزَلِيَّةُ وأُلوهَتُه، ظاهِرًا لِلبَصائِرِ في مَخلوقاتِه. فلا عُذْرَ لَهم إِذًا، لأَنَّهم عَرَفوا اللهَ ولَم يُمجِّدوه ولا شَكَروه كما يَنبَغي لِلّه، بل تاهوا في آرائِهِمِ الباطِلَة فأَظلَمَت قُلوبُهمُ الغَبِيِّة. زَعَموا أَنَّهُم حُكَماء، فإِذا هم حَمْقى قَدِ استَبدَلوا بِمَجْدِ اللهِ الخالِدِ صُوَرًا تُمثِّلُ الإِنسانَ الزَّائِلَ والطُيورَ وذَواتِ الأَربَعِ والزَّحَّافات.” (روما ١، ١٨- ٢٣).

أضاف الكاردينال رانييرو كانتالاميسا يقول يتم تحديد الخطيئة الأساسية، على أنها الهدف الأساسي للغضب الإلهي، أي في المعصية. وعلى ما تقوم بالضبط هذا المعصية، يشرح بولس الرسول على الفور، قائلاً إنها تقوم على رفض “تمجيد” و”شكر” الله. ويواصل بولس إدانته بإظهار الثمار التي تنبع، على المستوى الأخلاقي، من رفض الله الذي ينتج عنه انحلالاً عامًا للأخلاق، و”سيل من الهلاك” الحقيقي الذي يجر البشرية إلى الخراب. وهنا يرسم بولس الرسول صورة واضحة لرذائل المجتمع الوثني. ولكن أهمَّ ما يجب الاحتفاظ به من هذا الجزء من رسالة القديس بولس ليس قائمة الرذائل التي كانت موجودة أيضًا لدى الرواقيين في ذلك الوقت. ولكن الأمر الذي يثير القلق للوهلة الأولى هو أن القديس بولس لا يجعل من كل هذا الاضطراب الأخلاقي سببًا للغضب الإلهي وإنما نتيجة له، وتعود بشكل لا لبس فيه ثلاث مرات الصيغة التي تنص على ذلك: “ولِذلِك أَسلَمَهُمُ اللهُ بِشَهَواتِ قُلوبِهم إِلى الدَّعارَة يَشينونَ بِها أَجسادَهم في أَنفُسِهم. ولِهذا أَسلَمَهُمُ اللهُ إِلى الأَهْواءِ الشَّائِنة، فاستَبدَلَت إِناثُهم بِالوِصالِ الطَّبيعيِّ الوصالَ المُخالِفَ لِلطَّبيعة، ولَمَّا لم يَرَوا خَيرًا في المُحافظةِ على مَعرِفةِ الله، أَسلَمَهُمُ اللهُ إِلى فَسادِ بَصائِرِهِم ففَعَلوا كُلَّ مُنْكَر” (روما ١، ٢٤. ٢٦. ٢٨). من المؤكد أن الله لا “يريد” مثل هذه الأشياء، لكنه “يسمح” بها لكي يجعل الإنسان يفهم إلى أين يقود رفضه. لا يوجد تمييز أمام الله بين اليهود واليونانيين، وبين المؤمنين والوثنيين: “جَميعَ النَّاسِ قد خَطِئُوا فحُرِموا مَجْدَ الله” (روما ٣، ٢٣). لقد حرص الرسول على توضيح هذه النقطة لدرجة أنه خصص الفصل الثاني بأكمله وجزءًا من الفصل الثالث من رسالته لها. إن البشرية جمعاء هي التي تعيش في حالة الهلاك هذه، وليس هذا أو ذاك الفرد أو الشعب.

تابع واعظ القصر الرَّسوليّ يقول في هذا كلّه أين هي آنية رسالة بولس الرسول التي تحدثتُ عنها؟ هي تكمن في العلاج الذي يقترحه الإنجيل لهذا الوضع، والذي لا يتمثل في الالتزام في نضال من أجل الإصلاح الأخلاقي للمجتمع. وإذا ترجمنا ذلك إلى لغة آنية هذا يعني أن البشارة لا تبدأ بالأخلاق وإنما بالإعلان، وفي لغة العهد الجديد هي لا تبدأ بالشريعة وإنما بالإنجيل. وما هو محتواها، أو جوهرها؟ ماذا كان يقصد بولس بـ “البشارة” عندما قال إنها ” قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن”؟ وبماذا يؤمن؟ “فقَد أَظهِرَ بِرُّ اللّهِ بِمَعزِلٍ عنِ الشَّريعة” (روما ٣، ٢١): هذه هي الحداثة. الواقع الجديد هو أنه في ملء الزمان، تصرّف الله، كسر الصمت، وكان أول من مد يده إلى الإنسان الخاطئ. ولكن دعونا الآن نستمع مباشرة إلى بول الرسول الذي يشرح لنا على ما يقوم “تصرّف” الله هذا: “ذلِكَ بِأَنَّ جَميعَ النَّاسِ قد خَطِئُوا فحُرِموا مَجْدَ الله، ولكِنَّهم بُرِّروا مَجَّانًا بِنِعمَتِه، بِحُكمِ الفِداءِ الَّذي تَمَّ في المَسيحِ يَسوع، ذاكَ الَّذي جَعلَه اللهُ كَفَّارةً في دَمِه بِالإِيمان ليُظهِرَ بِرَّه، بإِغْضائِه عنِ الخَطايا الماضِيَةِ في حِلمِه تَعالى، لِيُظهِرَ بِرَّه في الزَّمَنِ الحاضِر فيَكونَ هو بارًّا وُيبَرِّرَ من كانَ مِن أَهلِ الإِيمانِ بِيَسوع” (روما ٣، ٢٣- ٢٦).

أضاف الكاردينال رانييرو كانتالاميسا يقول ماذا يمكننا أن نتعلم من كلمة الله التي سمعناها للتو؟ إلى الوثنيين، لا يقول بولس أن علاج عبادة الأصنام يكمن في العودة إلى مُساءلة الكون من أجل الارتقاء من الخلائق إلى الله؛ وإلى اليهود، لا يقول إن العلاج يكمن في العودة إلى الحفاظ بشكل أفضل على شريعة موسى. العلاج ليس ارتقاء أو عودة إلى الوراء. وإنما هو إلى الأمام، إنه في قبول الفداء الذي حققه المسيح يسوع. إنَّ بولس في الواقع لا يقول شيئًا جديدًا تمامًا. هو يستعيد فقط الإعلان الافتتاحي لكرازة يسوع ويكيِّفه مع الوضع الحالي: ” تَمَّ الزَّمانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكوتُ الله. فَتوبوا وآمِنوا بِالبِشارة”. ولكن لا يتوقف خطاب يسوع ولا خطاب بولس بالطبع عند هذه النقطة. في وعظه، سيشرح يسوع ما يتطلّبه قبول الملكوت وسيكرس بولس الجزء الثاني بأكمله من رسالته لسرد الأعمال، أو الفضائل، التي يجب أن تميِّز الشخص الذي أصبح خليقة جديدة.

تابع واعظ القصر الرَّسوليّ يقول نقرأ في بداية الإرشاد الرسولي “فرح الإنجيل”: “أدعو كل مسيحي، في أي مكان وموقف يجد نفسه فيه، لكي يجدد اليوم لقاءه الشخصي مع يسوع المسيح أو، على الأقل، لكي يسمح للمسيح بأن يلتقيه، ويبحث عنه كل يوم دون توقف. وبالتالي لا يوجد سبب يجعل أي شخص يعتقد أن هذه الدعوة ليست موجّهة له”.  لنحاول أن نفهم ما هو في الواقع هذا “اللقاء الشخصي” مع المسيح. أقول إن الأمر أشبه بلقاء شخص وجهًا لوجه، بعد أن عرفته لسنوات فقط من خلال الصور. يمكننا أن نعرف كتبًا عن يسوع، وعقائد، وهرطقات، ومفاهيم حوله، ولكن قد لا نعرفه حياً وحاضراً. سيساعدنا على فهم هذا الفرق ما يحدث في المجال البشري، عندما ننتقل من معرفة شخص ما إلى الوقوع في حبه. يمكن للمرء أن يعرف كل شيء عن شخص ما: الاسم، العمر، الدراسات التي قام بها، والعائلة التي ينتمي إليها … ثم في يوم من الأيام تتَّقد الشرارة ويقع في حب ذلك الشخص. فيتغير كل شيء. فماذا علينا أن نفعل إذن لكي نجعل تلك الشرارة تتّقد في كثيرين تجاه شخص يسوع؟ هي لن تتّقد أبدًا في الشخص الذي يُصغي إلى رسالة الإنجيل ما لم تكن قد اشتعلت أولاً – على الأقل كرغبة وبحث وهدف – في الشخص الذي يعلنها.

أضاف الكاردينال رانييرو كانتالاميسا يقول من أجل تعزية وتشجيع الذين يعملون بشكل مؤسساتي في مجال البشارة، أود أن أقول لهم إن ليس كل شيء يعتمد عليهم. يعتمد عليهم فقط أن يخلقوا الظروف لكي تتّقد تلك الشرارة وتنتشر. ولكنها تتّقد في أكثر الطرق واللحظات غير المتوقعة. في معظم الحالات التي عرفتها في حياتي، كان اكتشاف المسيح الذي غيّر حياة شخص ما وليد لقاء مع شخص سبق له أن اختبر تلك النعمة، أو من خلال المشاركة في لقاء ما، أو من خلال الإصغاء لشهادة حياة، أو من خلال اختبار حضور الله في لحظة ألم شديد، أو بعد أن نال هذا الشخص ما يُعرف بمعمودية الروح. في عظته بمناسبة قداس تبريك الزيوت يوم خميس الأسرار في عام ٢٠١٢، قال البابا بندكتس السادس عشر: “إنَّ الذي ينظر إلى تاريخ مرحلة ما بعد المجمع يمكنه أن يرى ديناميكية التجدد الحقيقي، التي اتخذت غالبًا أشكال حركات مليئة بالحياة تجعل ملموسة حيوية الكنيسة المقدّسة وحضور الروح القدس وعمله الفعال”.

وختم واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا تأمّله الثاني لزمن الصوم بالقول أختم بالكلمات الختامية لمسيرة العقل إلى الله للقديس بونافنتورا، لأنها تقترح علينا من أين علينا أن نبدأ لكي نحقق أو نجدد “علاقتنا الشخصية بالمسيح” ونصبح مُبشِّرين شجعانًا لها: “هذه الحكمة الصوفية السريّة – يكتب- لا أحد يعرفها إلا الذي ينالها؛ ولا أحد ينالها إلا الذي يرغب بها؛ ولا أحد يرغب بها إلا الذي ألهب قلبه الروح القدس الذي أرسله المسيح إلى الأرض”.

‫شاهد أيضًا‬

في خميس الأسرار…

تيلي لوميار – نورسات – مارلين صليبي هو خميس الأسرار المبارك الذي نتأمّل فيه كم…