ديسمبر 4, 2020

الخوري شربل شلالا: هل من أزمة قيم وهل من دور للعائلة؟

من أجل العائلة الكنيسة المنزليّة

في ظلّ الظروف الصحيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة التي نعيشها في وطننا تعلو الأصوات منذرة بأزمة قيم تطال مجتمعنا اللبناني وبإقتراب خطر الماديّة التي لا تعطي أيّ وزن للقيم. بالمقابل يشمئز البعض من كثرة القيم وتتوالى المساعي لتجريدها من كلّ مصدر خارجي أو مقدّس ولجعل الإنسان مصدر كلّ القيم. 

بداية،

ماذا نعني بأزمة قيم ؟ تشير أزمة القيم إلى فقدان المعايير الأخلاقيّة المهمّة لكلّ فعل أخلاقي. هذا الفعل يفقد معناه ولا يعود يخدم غايات خيّرة. كما تشير أزمة القيم إلى تمزّق التوازن الإجتماعي لأنّ التوافق الإجتماعي حول الأخلاق انكسر وصار التنوّع في القيم ممكناً بسهولة، والتعدّديّة، التي لا مفرّ منها، دافعة باتجاه إعادة النظر في العيش معاً. يشهد مجتمعنا اللبناني اليوم تطوّراً ملحوظاً على مستوى نموّ الأفكار التحرّريّة والعلمانيّة التي تحمل ما تحمل من أمور إيجابيّة ومن مخاطر لها تأثيراتها السلبيّة إذا أساء الإنسان إستخدامها. صحيح أنّ مجتمعنا اللّبناني لا يزال، إلى حدّ ما، يحافظ على القيم الأخلاقية ويعيشها، إنّما لا بدّ من التمييز بين “عيش القيم الأخلاقيّة” و”غاية عيش هذه القيم”.

نلاحظ اليوم انتشاراً واسعاً لروح الفردانيّة ؛ كلّ فرد يدور في فلك ذاته: “أنا ولا أحد” “كلّ ما يعيشه أو يقوله الآخرون يعنيهم لوحدهم”. في حين أنّ القيم تفسح في المجال أمام كلّ شخص للإعتراف بالآخر والعيش معه لتحقيق ذاته. كما نشهد اليوم رفضاً لأيّة مرجعيّة لتلك القيم لفتح المجال أمام التعدّديّة في القيم بحيث يختار الإنسان ما يناسب رغباته ومصالحه.  

هل غياب أيّة مرجعيّة هو الحلّ لتثبيت إستقلاليّة الإنسان وحريّته ؟

هل يجب تغيير دعوة مجتمعنا كي يبتعد عن القيم فيصبح لكلّ فرد قيمه الخاصة التي يؤمن بها وتؤمّن له إستقراراً ذاتيّاً ؟

ألا يعنينا أن تدخل الفردانية الى عمق مجتمعنا فتصبح “الأنا” محور كلّ شيء ؟ ألا نخاف من أن تؤثر “النسبيّة في القيم” على المجانيّة التي هي إلتزام من أجل الآخر وقيمة نعيشها بفرح وليس من أجل الفرح بدءاً من العائلة ؟  العائلة هي محور الحياة الإجتماعيّة وإطار ثابت تعاش فيه القيم الإنسانيّة عن قناعة. إنّها اليوم أمام تحدّ كبير، إمّا أن تكون قادرة على إسماع صوتها وإمّا تدخل في متاهات المجتمع حيث القيم لا زالت موجودة إنّما كلّها متساوية وكلّها تشق طريقها لتجد من يستقبلها.

إذا كانت العائلة اليوم تقبل “بالبراغماتيكيّة” في حياتها يعني أنّها تبرّر المساومة على القيم بقبولها أحياناً بالأقّل شرّاً بين الشرور من أجل أن تكون واقعيّة ومتفهّمة لهموم العصر.  إنّ فقدان القيم من عائلاتنا يؤثّر على الثقة بالمستقبل. من هنا رسالة العائلة نضاليّة في قلب المجتمع. عليها أن تبقى مدركة للواقع من دون تهكّم، غنيّة بالمثل العليا من دون وهم. لا يمكنها أن تقبل بجعل المنفعة السهلة تأخذ مكان الحبّ، ولا باستباحة الحق بالحياة لكلّ كائن بشري. العائلة قادرة على استباق الأمراض التي ممكن أن تفتك بمجتمعنا وتبديد الإلتباس بالأفكار وقراءة الأحداث في إطارها الصحيح. من الأمراض التي ممكن أن تفتك بمجتمعنا، النسبيّة التي تدافع، على عكس ما تروّج، عن الفكر الأحادي وتساوي كلّ القيم بعضها ببعض وتفرض قيماً أخرى تؤذي الإنسان وتعطّل مشروع أنسنته بإسم التساهل والتسامح. فيصبح كلّ شيء جائز طالما أنّه يفيدني ويحقّق مصالحي وكلّ شيء مهمّ ومفيد طالما أنّه يجيب على متطلباتي.  بالرّغم من كلّ ذلك لا يزال المجتمع اليوم ينتظر من العائلة أن تكون “صيدليّة المعنى” لتوقظه وتشجّعه على منطق الهبة والعدالة الملازمة للرحمة.

هذا لأنّه لا يزال مقتنعاً بأنّ رسالتها لا تجيب على منطق المنفعة بل على المفيد والضامن لمشروع أنسنته. إنّه لا يزال ينتظر من العائلة أن تكون علامة فارقة لأنها لا تنظر الى الآخر من باب القدرة على الإنتاج وترفض لغة اليقين المطلق. إنّها تساعد المجتمع على عدم نسيان مفهوم الخير العام وعلى عدم النظر إلى مفهوم الأكثريّة كضمانة دائمة لأخلاقيّة الفعل. فالقيم ليست دخيلة أو وجدت بالصدفة، إنّها من صلب طبيعة الإنسان. إنّها لا تعاش من قبل كلّ شخص على حدى، كما لا تعاش مفروضة من شخص على آخر.  في الختام، إنّ غياب التوافق الإجتماعي حول قضايا أخلاقيّة لا يعني أنّ كلّ السلوكيّات يجب أن تكون متوازية أخلاقيّاً وأنّ لا وجود لقيم ثابتة وشاملة. من الضروري أن نبقى كلّنا منفتحين على النقاش والحوار والتفكير الإنساني الهادئ لأنّنا لا نملك الحقيقة بل الحقيقة تملكنا وأنّنا لا زلنا في بحث مستمرّ لكي نعزّز العيش معاً. إنّ إلتزامنا الفعلي يعطي للقيم معانيها. لا يكفي أن نتكلّم عن القيم لتعاش. فهي ليست “تعويذة” نرفعها خارج التاريخ والحياة اليوميّة، إنّما أساسيّة لتجمع البشر مع كل إختلافاتهم. ليست القيم عبئاً على مجتمعنا بل ضمانة لنموّه.

إنّها تحمي الإنسان من ذاته ومن العنف الناتج عن رغبته بالحريّة التي هي أحياناً تماديّاً على الآخر أكثر منها تواصلاً معه من أجل بنائه. والعائلة مدعوّة لتكون، في هذه الأزمة، قوّة دفع للمجتمع، تفكّر وتناقش وتقترح وتواجه وتدعم لما فيه خير الجميع.

‫شاهد أيضًا‬

بيان صادر من إدارة مزار سيدة لبنان

صدر عن إدارة مزار سيدة لبنان حريصا البيان التوضيحي التالي:بعد انتشار بعض الفيديوهات عبر وس…