سبتمبر 6, 2020

الراعي من الديمان: ما تألمت بيروت كما هي اليوم مكسورة حزينة … لكنها العازمة على النهوض والعارمة بحب بنيها وهي سوف تعود سيّدة الشرق ومحطّ أنظار العالم

FB IMG 1599379452650

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعيالأحد الخامس عشر من زمن العنصرةالديمان، الأحد 6 أيلول 2020
“لمـّا علِمَت المَرأةُ أنَّ يَسُوع جالِسٌ في بَيتِ الفرِّيسِيّ، جاءَتْ تَحمِلُ قَارُورَةَ طِيبٍ” (لو7: 37-38)
 1. كان روحُ التوبة والندامة يفعَلُ في قلب تلك المرأةِ المعروفةِ في المدينة أنَّها خاطئة. فاتَّخذت قرار التغيير، وآمنَت أنَّ يسوع وحدَه قادرٌ أن يُحرّرها من شواذ حياتها، ويغفِرَ خطاياها، ويجعَلَها تولدُ لحياةٍ جديدة. “فلمَّا علِمَت أنَّ يسوع جالسٌ في بيت سمعان الفرِّيسيّ، جاءت تحمِلُ قارورة طِيب” (لو7: 37-38)، وسكبَتها على قدمَي يسوع.
 2. إنَّها حركةٌ نبويَّةٌ إذ إنَّ سكبَ الطّيب كان أيضًا لتكريم جثمان الميت. فلمَّا جاءت مريم أخت لعازر وسكبَت قارورة طيب الناردين الغالي الثمن، واعترضَ يهوذا الاسخريوطيّ الذي أراد أن يُباع الطيب ويُوزَّع ثمنُه على الفقراء، لا حبًّا بالفقراء، بل لأنَّه كان سارقًا والكيسُ معه، قال يسوع متنبِّئًا: “دعوها لقد حفِظَته ليوم دفني” (يو 7:12). أمَّا الحركة النبويَّة لدى هذه المرأة الخاطئة فهي أنَّها علامةُ موتها عن خطاياها وحالتها القديمة.
 3. شهرٌ مضى على كارثة انفجار مرفأ بيروت، بل جريمة تفجير هذا المرفأ. نعم، ما جرى هو جريمةٌ أكان ناتجًا عن إهمالٍ، أو عن تواطُؤٍ، أو عن عملٍ إرهابيٍّ، أو اعتداء. شهرٌ مضى والأحزانُ مفتوحةٌ والعذابات تتوالى والضَّحايا تتزايد. وإذ نكرِّرُ تقديرَنا العمل المتفاني الذي تقوم به أجهزةُ الإسعاف والدفاع المدني والفرق الآتيةُ من دولٍ صديقة بحثًا عن المفقودين، نجدّد تعازيَنا إلى جميع العائلات وتمنِّياتنا بالشِّفاء للمصابين. ما كانت بيروت مكسورةً مثلما هي اليوم، وما كانت عازمةً على النهوض وملاقاة الشّمس مثلما هي اليوم. ستعود بيروت سيّدةَ الشَّرق والمتوسِّط، وستعود مركزَ النَّهضة الثَّقافيَّة والتَّربويَّة والاقتصاديَّة، بإذن الله وشفاعة سيِّدة لبنان وقدِّيسيه.
 4. إنَّنا نحيّي جميع المشاركين معنا بهذه اللّيتورجيّا الإلهيَّة في كاتدرائيَّة الكرسي البطريركيّ في الديمان. وفي مقدّمة الحضور معالي وزير الخارجيَّة والمغتربين في الوزارة المستقيلة الأستاذ شربل وهبه، وشقيقه رئيس بلديَّة العاقورة الدكتور منصور وهبه، ونحن نذكر معهما والعائلة المرحوم المهندس المدني فرنسوا، النجل الوحيد للدكتور منصور، الذي توفي في باريس منذ حوالي شهرين عن 44 سنة من العمر، بعد صراعٍ مع المرض، ونشاطٍ دائم بين فرنسا والجزائر بنوعٍ خاصّ، في حقل بناء الجسور، متَّصفًا بالأخلاقيَّة وروح السَّلام والحوار والالتزام الكنسيّ. نجدِّد تعازينا لوالديه ولزوجته وأولاده الثلاثة وعمِّه معالي الوزير وسائر ذويهم. نلتمس له الراحة الأبديَّة في السَّماء، ولأسرته العزاء. ونرحِّب برئيس إقليم كاريتاس – الجبّه الجديد، وأعضاء المكتب وشبيبة كاريتاس وكل الملتزمين في رسالة كاريتاس – لبنان. كما نرحّب بأعضاء رابطة سيدة ايليج.  ونحيِّي كلَّ المشاركين روحيًّا عبر محطَّة تلي لوميار – نورسات والفيسبوك وسواهما من وسائل الاتصال. نصلّي ملتمسين نعمة اللِّقاء الوجدانيّ برحمة المسيح الفادي، مثل تلك المرأة التي قال لها: “إيمانُكِ خلَّصَك! إذهبي بسلام” (لو 50:7).
 5. إنَّ ما قامت به المرأة من أفعال: تبليل قدمَي يسوع بالدموع وتنشيفهما بشعرها، وتقبيل قدميه ودهنهما بالطيب، لأبلَغُ من الكلام. فقرأ يسوع للحال توبتَها عن خطاياها، وقرارَها في تغيير مجرى حياتها، بفضل حبّها لله الذي سبقَتْ وأساءت إليه كثيرًا في ماضيها. كما قرأ عزمَها على التماس الغفران، ونعمةً منه تغسِل خطاياها الكثيرة. أمَّا سمعان الفرّيسيّ، الداعي يسوع إلى بيته لتكريمه، فظلَّ في عتيق نظرته ودينونته لتلك المرأة. فلم يفهم شيئًا من نبويَّة حركتها وبلاغة صمتها وأفعالها. ما حملَ يسوع على أن يشرح له ذلك بمثَل الدائن والمديونَين، ليقول أنَّ الخطيئة دينٌ علينا لله نوفيه بفعل حبٍّ من القلب نُعبِّر عنه بالتوبة وبقرار التغيير، لا بمجرَّد كلماتٍ مِن الشِّفاه. ثمَّ أعطاه الأمثولة: “إنَّ خطاياها الكثيرة مغفورةٌ لها، لأنَّها أحبَّت كثيرًا. أمَّا الذي يُغفر له قليل، فيحبّ قليلاً” (لو 47:7). وختمَ قائلاً للمرأة: “مغفورةٌ لكِ خطاياكِ… إيمانكِ خلَّصكِ، إذهبي بسلام” (لو7: 48 و 50). لقد رسمَ لنا يسوع، بمثَله وغفرانه للمرأة ذات الخطايا الكثيرة، ثقافة المغفرة والمصالحة، بدلاً من شريعة العهد القديم: “العين بالعين والسنّ بالسنّ” (خروج 24:21). هذه الثقافة مطلوبةٌ من كلّ إنسان، وبخاصَّة من المؤمنين بالمسيح. فبولس الرسول يذكّرنا نحن المسيحيّين أنَّنا “سفراء المسيح للمصالحة” (2كور 20:5).
 6. ولا ننسى أنَّ دَينَ خطايانا، بل خطايا البشريَّة جمعاء، يقتضي إيفاءً بمقتضى العدالة. وبما أنَّ لا أحد من بني البشر يستطيع إيفاء هذا الدَّين، وفاه الله عنَّا بفيضٍ من حبِّه، مرسِلاً ابنَه الوحيد الذي تجسَّدَ من مريم البتول، وافتدى خطايانا بآلامه وموته على الصَّليب. إنَّ عمَلَ الفداء مستمرٌّ يوميًّا في كلّ ذبيحة مقدَّسَةٍ تُرفَع على مذابح الكنيسة على وجه الارض.
 7. إنَّ توبة المرأة الخاطئة ومغفرة خطاياها وتبدُّلَ مسيرة حياتها، دعوةٌ لنا جميعًا، وبخاصَّةٍ للجماعة السِّياسيَّة. فلا يمكن أن تستمرَّ هذه في نهجها القديم بعد زلزال انفجار مرفأ بيروت وما خلَّفَ من ضحايا ونكبةٍ ودمار، وبعد وصول الحالة الاقتصاديَّة والماليَّة والمعيشيَّة إلى الحضيض، وبعد أحد عشر شهرًا من حراك الثورة الرافضة لاستمراريَّة الوجوه إيَّاها القابضة على ناصية الدولة منذ عقود، والفساد والمحاصصة والاهمال العامّ، وبعد الشَّلل الذي ما زالت تُسبِّبه وبكثرة جائحةُ كورونا منذ حوالى ثمانية أشهر. بعد كلِّ هذه الأمور، من الواجب تأليف حكومةٍ تكون على مستوى الحدث الآني والمرحلة التاريخيَّة. يستطيع الرئيس المكلَّف ذلك إذا التزم بالدستور والميثاق والديمقراطيَّة الحقَّة. فإلى الآن كان الخروج عنها نهجًا توافقَ أهلُ السلطة فيه على المحاصصة والزبائنيَّة والفساد والانحياز، فكان بالتالي انهيار البلاد.
 8. فيا أيُّها الرئيس المكلَّف، ألِّفْ حكومةَ طوارئ، مصغَّرةً، مؤهّلةً، قويّةً، توحي بالجديَّة والكفاءة والأمل، تثِقُ بنفسها، وبها يثِقُ الشَّعب، ولا تسألْ ضمانةً أخرى. فلا ضمانةَ تعلو على ضمانة الشَّعب. ونحن معه. فالزَّمنُ المصيريُّ يستلزم حكومةً من الشَّعب وللشَّعب، وليس من السِّياسيّين وللسِّياسيِّين. الزَّمنُ المصيريُّ يستلزم حكومةً لا احتكارَ فيها لحقائب، ولا محاصصةَ فيها لمنافع، ولا هيمنةَ فيها لفئة، ولا ألغامَ فيها تُعطِّلُ عملَها وقراراتِها. الزَّمنُ المصيريُّ يستلزم حكومةً تتفاوض بمسؤوليَّةٍ مع صندوق النَّقد الدوليّ، وتُطلق ورشة الإصلاح الفعليَّة، وتُحيِّدُ لبنانَ عن الصِّراعات وتُحيِّدُ اللُّبنانيِّين عنها. تُعيد للنَّاس ودائعَهم الـمصرِفيَّة، تُنقِذُ العُملةَ الوطنيَّة، تَستقطبُ المساعداتِ الدوليَّة، تُعيد بناء العاصمة والمرفأ، توقِف هجرة العائلات والجيل الصَّاعد، تُسرع في ترميم المنازل ليَبيت الناس فيها قبل الشِّتاء، تؤمِّنُ عودة الجامعات والمدارس وتوفِّر لها المساعدات اللَّازمة. إنْ لم تكنِ الحكومة بهذه المواصفات ستموت في مهدها.
 9. وكم نتمنَّى أن تُدخِل الحكومة العتيدة في بيانها الوزاريّ برنامج العمل على تحقيق ما اعتمدَته الحكومات المتتالية من سنة 1943 إلى 1980، وهو أنَّ سياسة لبنان الخارجيَّة الحيادُ وعدمُ الانحياز. وقد شرحنا معانيه وقيمتَه في مذكِّرتنا التي أصدرناها في 7 آب الماضي. فالحيادُ، الذي هو من صميم الكيان اللُّبنانيّ، لأمرٌ إنقاذيٌّ وجوديٌّ في الداخل، يُمكِّن لبنان من تأدية واجبه ورسالته، وفي الخارج يُعزِّز تضامن لبنان مع قضايا الشُّعوب. جميعُ الجماعات اللُّبنانيَّة سَعَت عبر التاريخ، القديمِ والحديث، إلى تحييدِ نفسِها عن صراعات المنطقة. وكلَّما كانت تلتزم الحياد كانت تنجو بنفسها وبالبلاد، وكلَّما كان يراودُها إغراءُ الانحيازِ الجارِف كانت تُصاب بالخيباتِ وتَجرُّ الويلات إلى لبنان وشعبه.
 نصلّي إلى الله في هذا الظَّرف العصيب أن يحمي لبنان. فنرفع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد. آمين.
#البطريركية_المارونية#البطريرك_الراعي#شركة_ومحبة#عظة_الراعي#الديمان#حياد_لبنان

‫شاهد أيضًا‬

“ابحثوا عن المفاوضات. ابحثوا عن السلام”

موقع الفاتيكان نيوز في مقابلة مع محطة “سي بي أس” الأمريكية البابا يتوجه إلى ال…