يناير 30, 2022

الراعي: من واجب الدولة اتّخاذ القراراتِ الجريئةِ والصحيحةِ

الراعي: من واجب الدولة اتّخاذ القراراتِ الجريئةِ والصحيحةِ

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي

الأحد الرابع بعد الدنح

بكركي – الأحد 30 كانون الثاني 2022

“أعطيني لأشرب” ( يو 4: 7)

1.بهذا الطلب بدأ يسوع حواره مع المرأة السامريّة، التي جابهته بالرفض، لأنّ السامريّين لا يخالطون اليهود. لكنّ يسوع واصل حواره معها، رافعًا إيّاها إلى مستوى الماء الحيّ الذي يعطيه، وهو يرمز إلى الروح القدس. وتواصل الحوار بصبرٍ وثبات، إلى أن إنتهى وقد اكتشفت المرأة أنّ يسوع نبيّ، وأنّه المسيح المنتظر. وكشف لها يسوع أنّ العبادة الحقيقيّة لا ترتبط بمكان، بل هي “بالروح والحقّ”. كانت نتيجة الحوار أنّ المرأة السامريّة، على الرغم من حالة الخطيئة التي كانت تعيش فيها، وكشفها لها يسوع، بكلّ محبّة، أصبحت “تلميذة” المسيح، ورسولته. فعلى وقع شهادتها “آمن بيسوع كثيرون من أهل السامرة“( يو 4: 14).

2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة، مع المركز المارونيّ للتوثيق والأبحاث في بداية نشاطه للعام 2022. نحيّي رئيسه سيادة أخينا المطران سمير مظلوم، الذّي نهنّئه بيوبيله الأسقفيّ الفضّي، راجين له العمر الطويل والصحّة والنجاح. ونحيّي فيه مجلس الأمناء الساهر على عمل المركز والداعم له، والمجلس العلميّ الذي يعدّ الدراسات المتخصصة من مثل مئويّة إعلان دولة لبنان الكبير، واللجان الخمس المتخصّصة: الاستراتيجيّة والسياسيّة والقانونيّة والاقتصاديّة والتربويّة ، وموظّفيّ المركز.

إنّنا نشكرهم جميعًا على ما يقدّمون من أبحاث ودراسات علميّة، توضع في تصرّف البطريركيّة والرأي العام. كما نشكرهم على الجهود والتضحيات التي يبذلونها مجانًا. لأجلهم جميعًا، وكلّ الذين واكبوا هذا المركز منذ تأسيسه سنة 2006، بعطاءاتهم المتنوّعة. نقدّم هذه الذبيحة المقدّسة على نيّتهم ونيّة المركز، سائلين الله أن يكافئهم بفيض من نعمه وبركاته.

3. ونحيّي بيننا عائلة المرحومة نينات كامل، زوجة السيد جميل الورشا والدة سيادة أخينا المطران يوحنّا-رفيق الورشا، المعتمد البطريركيّ لدى الكرسيّ الرسوليّ، ورئيس معهدنا الحبريّ المارونيّ في روما. وقد ودّعناها مع أفراد عائلتها وأنسبائها بكل اسف منذ أسبوعين تقريبًا. نصلّي في هذه الذبيحة المقدّسة لراحة نفسها ولعزاء أسرتها.

4. علّق القدّيس أغسطينوس على تعب يسوع وجلوسه على حافة البئر منتظرًا من يأتي ويسقيه، قال: “خلقنا المسيح بقوّته، وأتى يبحث عنّا ليخلقنا من جديد بضعفه. كان ينتظر من يأتي ليحييه هو من تعبه. وصلت المرأة السامريّة لتستقي ماء. وكان اليهود يعتبرون السامريّين غرباء. جاء يسوع يكسر، بواسطة المرأة، هذه المسافة وهذا “البعد”، فآمنت هي به، وآمن كثيرون (يو 4: 14). إنّها معهم صورة الكنيسة الناشئة من الأمم، من “البعيدين والغرباء”. الحوار هو قوّة الكنيسة التي تجتذب الشعوب.

جلس يسوع على حافّة البئر عطشانًا، ليروي عطش الآتين إليه من الإيمان به، فكانت المرأة تلك العطشى بامتياز إلى الماء الحيّ، رمز الروح القدس، الذي من يشرب منه “يصير عنده معين ماء يجري للحياة الأبديّة” (يو 4: 14).

ما أشدّ عطش تلك المرأة إلى ماء الروح القدس، الماء الحيّ! ما أحوجها إلى الحقيقة التي تخرجها من أسر خطيئتها التي كشفها لها يسوع، وأراد تحريرها من قيودها! بالسؤال والجواب، أوقفها يسوع أمام حقيقة نفسها الداخليّة، وحسّسها بالعطش الحقيقيّ الذي لا يمكن لبئر يعقوب أن ترويه. لا شيء يوقف الإنسان عن الإزدواجيّة سوى حقيقة نفسه المكشوفة أمامه، فيما كان يخبّئها بأكاذيب واهية. ولا شيء يحمل الإنسان إلى الجدّيّة وقرار التغيير سوى الوقوف بوضوح لا يقبل الشكّ أمام واقعه المنحرف. فالمتّهم بجرم لا يعترف به إلّا عندما يضعه القاضي امام الحقيقة الواضحة، فيقرّ ويمثّل الجريمة.

5. يا ليت رجال السياسة والمسؤولين عندنا يحسنون الحوار الحرّ والمتجرّد والواضح مع الرغبة في الوصول إلى الحقيقة الموضوعيّة التي تجمع وتوحّد، وتشفي لبنان من أزمته السياسيّة، أساس كلّ أزماته الإقتصاديّة والماليّة والإجتماعيّة والمعيشيّة والأمنيّة.

لكنّنا نأمل أن تفرز الإنتخابات النيابيّة المقبلة في ايار نوّابًا أحرارًا متحلّين بروح الحوار ومؤمنين به. لذا يجب على اللبنانيّين جميعًا المشاركة فيها. فهي استحقاقٌ ديمقراطيٌّ لتعزيزِ النظامِ، ولممارسة حقِّ الشعب في التعبيرِ عن رأيهِ وفي المساءلة والمحاسَبة. وهي هذه المرّة مناسبةٌ لاختيارِ وُجهةِ لبنانَ المقبلَة. فالمجلسُ النيابيُّ المنتَخب هو مَن سيَنتخِبُ رئيسَ الجُمهوريّةِ الجديدِ، ومَن سيُشرِّعُ الإصلاحاتِ، ومَن سيُشاركُ في حوارٍ وطنيٍّ يَنعقدُ بعد انبثاقِ السلطةِ الجديدة برعايةٍ دُوليّة.

ونظرًا لأهميّةِ هذا الاستحقاقِ النيابيِّ، يجب علينا جميعًا أن نواجِهَ محاولاتِ الالتفافِ عليه، وأن نعالجَ معًا بروحٍ ميثاقيّةٍ ووطنيّةٍ أيَّ طارئٍ يُمكِنُ أن يؤثّرَ عليه وعلى الأملِ بالتغييرِ وعلى انتظامِ اتّفاقِ الطائف. وهذا مطلوب بنوع أخص من القِوى المناضِلةِ، الرافضةِ للأمرِ الواقعَ والهيمنةَ والانحيازَ والإساءةَ إلى الدول الشقيقة والصديقة، والمطالِبة بتنفيذِ القراراتِ الدوليّة.

6. إنَّ انكفاءَ الرئيسِ سعد الحريري، رجل الإعتدال، فاجأنا وأثارَ قلقًا واحتجاجًا لدى شريحةٍ وطنيّةٍ هي شريكةٌ أساسيّةٌ في الشراكةِ الوطنيّة. وإذ نَتمنَى أن يكونَ قرارُه ظرفيًّا، نَودُّ أن تبقى الطائفةُ السنيّةُ الكريمة على حماسِها للانتخابات وعلى تماسكِها، وأن تشارك بجميع قواها الوطنيّة وشخصيّاتها ونخبها، لكي تأتيَ الانتخاباتُ معبّرةً عن موقفِ جميعِ اللبنانيّين. ومن غير المسموح بأن يَتذرّعَ البعضُ بالواقعِ المستجِدّ ويروّج لإرجاءِ الانتخاباتِ النيابيّة.

7. من واجب الدولة اتّخاذ القراراتِ الجريئةِ والصحيحةِ، والتجاوبِ فعليًّا مع كلِّ مسعىً حميدٍ لانتشالِ البلادِ من الانهيارِ ووضعِها على مسارِ الإنقاذِ الحقيقيّ. لا يحقّ للمسؤولين فيها تحت ألفِ ذريعةٍ وذريعةٍ أن يرفضوا الأياديَ الممدودةَ لمساعدتِها، وأن يحجبوا الحقائقَ ويموّهوا الوقائعَ ويغطّوا تعدديّةَ السلاحِ ويبرّروا التجاوزاتِ والممارسات، ويتنصّلوا من إعطاء أجوبة على المواضيعِ الأساسيّة.

ولأنّ الدولةَ اللبنانيّةَ عاجزةٌ اليوم عن الاتفاقِ على موقفٍ موحّدٍ حيالَ ما يُقدَّمُ إليها من اقتراحاتٍ ومبادرات، اقترَحنا مؤتمرًا دوليًّا برعاية الأمم المتّحدة يَضعُ آليّةً تنفيذيّةً للقراراتِ الدوليّة، بحيث لا يَظلُ تنفيذُ جميعِ مندرجاتِ هذه القراراتِ على عاتقِ الدولةِ اللبنانيّةِ المنقسِمةِ والضعيفةِ. فالّذين أصدروا هذه القراراتِ في الأممِ المتّحدةِ ومجلسِ الأمن، معنيّون أيضًا بمصيرِها والسهرِ على تنفيذِها، وهم الأعلمُ بواقعِ لبنان وهشاشةِ أمنِه وسِلمِه وتركيبتِه.

8. ومن ناحية أخرى، عوضَ أن تَفرِضَ الحكومةُ ضرائبَ ورسومًا جديدةً مرتفِعةً على المواطنين، حريٌّ بها أن تَضبُطَ حدودَها البرّيةَ والجوّيةَ والبحريّةَ لتزيدَ وارداتِها الماليّةَ. وعوضَ أن تَستوردَ الطاقةَ بأسعارٍ باهظةٍ، حريٌّ بها أن تَبنيَ معاملَ إنتاجِ ووقفِ السرِقات. من أين لهذا الشعبِ المسكينِ أنْ يدفعَ ضرائب؟ وأموالُه قيدَ الاحتجازِ في المصارِف؟ عائلاتُه تعيشُ على الحدِّ الأدنى، وهو من دونِ كهرباء، 60% من شبابِه عاطِلون عن العملِ ويُهاجِرون، 30% من طلّابِه يغادرون مقاعدَ الدراسةِ بسبب ضيقِ الموارد، ومَرضاهُ لا يَجدون الدواءَ ولا يَحظون بالاستشفاء، ولا حتى بالدِفء في هذه الأيامِ الباردةِ والمثلجة. الحلّ هو إجراء الإصلاحاتُ المناسِبةُ مع الواقعِ اللبنانيّ، خصوصًا الالتزامُ بسياسةٍ وطنيّةٍ حياديّة.

9. فلنجدّد إيماننا بالعناية الإلهيّة، ونوكل إليها واقعنا المرّ، راجين منها أن تنتشلنا من واقعنا المرّ. للثالوث القدّوس كلّ مجد وتسبيح وشكر، الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

‫شاهد أيضًا‬

عظة البطريرك الرَّاعي – الجمعة العظيمة

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي الجمعة العظيمة بكركي – 29 آذار 2024 _______…