أغسطس 23, 2021

الرّاعي إلى المسؤولين: أوقفوا التّلاعب بمشاعر الشّعب وتعذيبه

“يا لتعاسة شعب، المسؤولون السّياسيّون عنه يهملون إهمالًا كاملًا سماع كلام الله، ولا يصغون إلّا إلى مصالحهم وحساباتهم. هؤلاء يقول عنهم القدّيس بولس الرّسول: “بطونهم آلهتهم” (في 3: 19)”، بهذه الكلمات أشار البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي إلى “مأساة شعب لبنان وانهيار أخلاق المسؤولين والدّولة”، وذلك في عظته خلال قدّاس الأحد الرّابع عشر من زمن العنصرة احتفل به في كنيسة الدّيمان.

وتحت عنوان “المطلوب واحد” (لو 10: 42)، قال البطريرك الرّاعي:

“1. إنّ مرتا ومريم جمعتا بين سماع كلمة الله والانصراف إلى العمل. سماع الكلمة يولّد الإيمان، والإيمان يحرّك على العمل الصّالح والخلّاق والمحبّ في جميع قطاعات الحياة: الكنسيّة والمدنيّة والسّياسيّة.

لم يوجّه الرّبّ يسوع إلى مرتا ملامةً، لأنّها تنصرف إلى واجبات الخدمة والضّيافة وهي ضروريّة، بل أظهر أهمّيّة سماع كلام الله، كما فعلت مريم، من أجل تقديس العمل، وتقديس الذّات فيه. ذلك أنّ تغذية الجسد ضروريّة للحياة الزّائلة، أمّا تغذية الرّوح بالاستماع إلى الكلمة الإلهيّة فضروريّة للحياة الأبديّة.

نجتمع معًا في هذه اللّيتورجيا المقدّسة حول مائدة المسيح الرّبّ، مائدة كلمته لإحياء إيماننا وإنارة عقولنا، ومائدة جسده ودمه لبثّ الحياة الإلهيّة فينا، وتقديس نفوسنا. إنّنا نصلّي كي ندرك هذه الحقيقة المحيية.

إنّنا نرحّب بكم جميعًا ونحيّي معنا الرّاهبات الأنطونيّات والشّبيبة الأنطونيّة من مدرستي غزير والخالديّة وقد قاموا مشكورين برسالة طيلة خمسة أيّام في رعايا المنطقة.

  1. جاء يسوع، حاملًا الخبز السّماويّ لبني الأرض، وقد أصبح واحدًا منهم، ويحتاج إلى طعامهم. لكنّه أراد بجوابه إلى مرتا أن يبيِّن حاجة بني الأرض إلى طعامه للحياة الأبديّة، كما قال لتلاميذه: “أنا هو الخبز النّازل من السّماء ليأكل منه الإنسان، فلا يجوع” (يو 6: 35). فيما كانت مرتا تهيِّىء للرّبّ طعامًا وفيرًا، كانت مريم تغتذي من كلام الحياة والصّلاح. قال القدّيس أغسطينوس: “كانت مريم تأكل ممّا كانت تسمع، أيّ كانت تأكل الحقيقة ممَّن قال عن نفسه “أنا هو الحقّ والحياة” (يو 14: 6). هذا هو “المطلوب الواحد والنّصيب الأفضل الّذي اختارته مريم، والّذي لا يُنزع منها” (لو 10: 42).
  2. سماع الكلمة الإلهيّة هو الدّافع الأساسيّ للخدمة والعطاء الّذي يصبح أساسًا للشّهادة المسيحية والشّركة، على مثال الكنيسة النّاشئة:”إذ كان جماعة المؤمنين مواظبين على تعليم الرّسل، وكسر الخبز، والشّركة في ما يملكون. فلم يكن بينهم محتاج” (أعمال2: 44،42). تقوم حياة الكنيسة والمسيحيّين على ركائز ثلاث متكاملة: كلمة الله، والأسرار وبخاصّة الإفخارستيّا، وخدمة المحبّة. فالكلمة تولّد الإيمان بالمسيح، والإيمان يقود إلى لقاء الرّبّ الخلاصيّ في الأسرار واللّيتورجيا، ونعمة الأسرار تحمل على المحبّة الاجتماعيّة تجاه الفقراء والمعوزين.
  3. يا لتعاسة شعب، المسؤولون السّياسيّون عنه يهملون إهمالًا كاملًا سماع كلام الله، ولا يصغون إلّا إلى مصالحهم وحساباتهم. هؤلاء يقول عنهم القدّيس بولس الرّسول: “بطونهم آلهتهم” (في 3: 19). هنا تكمن مأساةُ شعبِ لبنان وانهيارِ أخلاق المسؤولين والدّولة.

فبعد سنة وشهر بات واضحًا للجميع– رغم الوعود الفارغة– أنّ المسؤولين في لبنان لا يريدون حكومة، تاركين الشّعب يتدبّر أمره بيده. وهو يفعل ذلك ولو بالإذلال، ويحافظ على ما لم يحافظوا هم عليه. وإذا سألتهم: لماذا؟ فلا يعرفون! ولذا، يتبادلون التّهم ليلًا ونهارًا.

إنّ كلمة الله تصرخ بكم، أيّها المسؤولون: أوْقِفوا التّلاعبَ بمشاعرِ الشّعبِ وتعذيبه. أوْقِفوا العبث بمصيرِ الوطنِ والدّولة، واستنزافَ تشكيلةٍ وزاريّةٍ بعد تشكيلة، واختلاقَ شروطٍ جديدةٍ كلّما حُلَّت شروطٌ قديمة. ضعوا حدًّا لنهجِ التّعطيلِ والسّلبيّةِ ودربِ الانتحار. إنّنا نُدين التزامكم تصفيةَ الدّولةِ اللّبنانيّةِ بنظامِها وميثاقِها ودورِها التّاريخيِّ ورسالتِها الإنسانيّةِ والحضاريّة. لقد بات واضحًا أنّكم جُزءٌ من الانقلابِ على الشّرعيّةِ والدّولة، وأنّكم لا تريدون لبنانَ الّذي بناه الآباءُ والأجدادُ أرضَ لقاءٍ وحوار، وأنّكم لا تريدون حكومةً مركزيّةً بل تَتقصَّدون دفعَ الشّعبِ عَنوةً ورغمًا عنه إلى إدارةِ شؤونِه بنفسِه، وإلى خِيارات يَنأى عنها منذ خمسين سنة. كصدى لهذا الصّوت، نطالب وما زلنا بضرورة عقد مؤتمر دوليّ خاصّ بلبنان برعاية منظّمة الأمم المتّحدة من أجل إنقاذ لبنان بتطبيق قرارات مجلس الأمن غير المطبّقة إلى الآن، وتنفيذ اتّفاق الطّائف بروحه وكامل نصوصه، وإعلان حياد لبنان وفقًا لهويّته الأساسيّة، وتنظيم عودة النّازحين السّوريّين إلى بلادهم، وحلّ قضيّة اللّاجئين الفلسطينيّين.

“المطلوب الواحد” منكم أيّها المسؤولون السّياسيّون، إلى جانب سماع كلام الله، أن تحبّوا لبنان وشعبه، وتحفظوا الولاء له، دون سواه، وتضحّوا بمصالحكم الخاصّة في سبيله.

  1. إنّ شعبَ لبنان، وإن جريحٌ، سيَنتفضُ ويُقاومُ هذه النّزعةَ التّدميريّةَ، ويَستعيدُ كرامتَه وكرامةَ وطنِه كما فعلَ كلَّ مرّة. ولن يدعَ الشّعبُ أيَّ طرفٍ مهما كان، ومهما استقْوى واستبدّ، أنْ يُبدِّدَ تضحياتِ الأجيالِ ويَطعَنَ بأرواح الشّهداء. وما يُؤلم شعبنا أنّه غالبًا ما يُحرّرُ قرار الدّولة من دون دعمِ دولتِه له، بل هي نفسها تتواطأُ أحيانًا عليه وعلى شرعيّتِها مع قِوى غيرِ شرعيّةٍ ومع محاورَ خارجيّة.

أمّا نحن فنوكّد من جديد دعمنا للثّورة،ِ وحِرصنا على الشّرعيّة. دَعَمنا الثّورةَ بما تُمثِّلُ من أملٍ لتجديدِ لبنان وتغييرِ الاعوجاجِ، وتفتحُ طريقَ تحمِّل مسؤوليّةِ الوطن أمام الأجيالِ الطّالعةِ والنُخب. وحَرِصْنا على الشّرعيّةِ لكونها تعبيرًا عن وِحدةِ الكيانِ اللّبنانيِّ وعن ثوابتَ لبنان التّاريخيّة. إنّ شعلة الثّورة ما زالت ملتهبة وتحتاج إلى شدّ روابط وحدتها وتصويب أهدافها. ولكن بالمقابل أين الشّرعيّةُ من الثّوابتِ الوطنيّة والمؤسّسات؟ أين دورُها في الحفاظِ على الدّستورِ وسيادةِ لبنان؟ أين تَمسُّكُها باستقلاليّةِ القرارِ الوطنيّ؟ أينَ محاولاتُها لمنعِ تفتيتِ الدّولة؟ أين مساعيها لإنقاذِ الشّعب؟

  1. لقد بات واضحًا أنّ الغاية من تركَ الدّولة شعبَها يَتعذَّبُ، ويَستجْدي مستلزماتِ الحياة، ويجوع، في دولةٍ القضاء فيها تسيّس وتمذهب وتعطّل في أفظع جريمة في تاريخ لبنان متمثّلة في انفجار مرفأ بيروت (4 آب 2020)، هي دفع الأجيالِ اللّبنانيّةِ الجديدةِ والعائلاتِ إلى الهِجرةِ، وتفريغَ المجتمعِ من طاقاتِه الحيّة، وضربِ توازنِ الشّراكةِ الوطنيّةِ بُغيةَ وضعِ اليدِ على البلادِ. لكنّنا نؤكّد أنّ الشّعبَ اللّبنانيَّ مُصمِّمٌ على مواجهةِ التّحدّيات، وهو بانتظارِ عودةِ الدّولةِ إليه وإلى ذاتِها، يَتّجِهُ نحو تنظيمِ حياتِه في مناطقِه من خلالِ المؤسّساتِ والأطرِ القائمةِ ومرجِعيّاتِه الوطنيّةِ والاجتماعيّة والرّوحيّة، ومن خلال دورةٍ اقتصاديّةٍ تؤمّن له الغِذاءَ والدّواءَ والمحروقاتِ والكهرباءَ وجميعَ مستلزماتِ البقاءِ والصّمود. وإذ تقوم المناطق بهذا الدّور الموَقَّت، فهي تعمل على تمتين وِحدةِ لبنان وعلاقاتِه العربيّةِ والدّوليّةِ، والشّعبُ من جهته ساعٍ أبدًا إلى الحفاظِ على وجودِه على أرضِ الوطنِ في قريتِه ومِنطقتِه ومدينتِه حتّى يَستقبلَ الدّولةَ الجديدةَ والزّمنَ الجديد.
  2. معًا، في هذا السّياق، أودّ توجيه عاطفة شكر إلى كلّ الّذين في لبنان وبلدان الانتشار يمدّون يد المساعدة للّبنانيّين في حاجاتهم المتنوّعة. وأوجِّه نداءً إلى جميعِ الميسورين والمتمَكِّنين، خصوصًا الّذين يَدينون لهذا المجتمع بثرواتِهم الّتي جَنَوها بعرقِ الجبين، أن يَتضامنوا مع المواطنِ والوطن، ويُساهموا بتمويلِ هذا النّشاطِ الاقتصاديِّ والاجتماعيّ. وإنّي على يقين من أنَّ هذه الفئاتِ الميسورة، الّتي ساهمَت في رفعِ اسمِ لبنان، ستقِفُ إلى جانبِ الشّعب في كلّ مناطقِه.
  3. يا ربّ، أنت تعلّمنا في إنجيل اليوم أنّ المطلوب الواحد في الحياة هو سماعُ كلام الله. هبنا نعمة الثّبات في سماعه لكي يستنير كلُّ عمل نقوم به، فيأخذ عزيمته وقيمته ومعناه. وإليك نرفع المجد والتّسبيح أيّها الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.”

‫شاهد أيضًا‬

البابا فرنسيس يكتب تأملات درب الصليب في الكولوسيوم لأول مرة

وكالة آكي الإيطالية للأنباء – البابا فرنسيس يكتب تأملات درب الصليب في الكولوسيوم لأو…