أغسطس 5, 2021

الرّاعي في ذكرى انفجار المرفأ: كلّ الحصانات تسقط أمام دماء الضّحايا ومن يخاف العدالةَ يدين نفسه بنفسه

عند السّاعة السّادسة وسبعة دقائق مساءً، ترأّس البطريرك المارونيّ مار بشارة بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ لمناسبة الذّكرى السّنويّة الأولى لانفجار 4 آب/ أغسطس، بدعوة من أهالي شهداء وضحايا انفجار مرفأ بيروت، وبتنظيم من أبرشيّة بيروت المارونيّة وتجمّع كنيسة من أجل لبنان، رفع خلاله الصّلاة من المرفأ على نيّة الضّحايا.

وعلى ضوء الآية الإنجيليّة “سيقتلونه وفي اليوم الثّالث يقوم من بين الأموات” (متّى 17: 23)، ألقى الرّاعي عظة قال فيها:

“1. كلمة الله المعزيّة

كثيرون أرادوا هذه الذّكرى السّنويّة لانفجار مرفأ بيروت يوم غضب ومظاهرات وإدانات. لكنّني أؤكّد للجميع أنّ الكلام الإلهيّ الذي سمعناه هو الأفعل والأضمن والمعزّي حقًّا للقلوب الجريحة. فصوت الله ينادي ضمير كلّ مسؤول عن هذا التّفجير من بعيدٍ أو من قريب، مهما تستّر واختبأ وتحجّج بحصانة.

صوت الله يناديه ويُقلِقه مثلما أقلق قايين طيلة حياته، في يقظته ورقاده، ويقول: “ماذا فعلتَ؟ دم أخيك يصرخ إليَّ من الأرض” (تك 4: 10).

لا تُقَدَّرُ بثمنٍ قيمةُ دماء ضحايانا المئتين وسبعْ، والجرحى السّتةُ آلاف والخمسْ مئة، وتدميرُ نصف العاصمة بيروت، ومئات الّذين خسروا بيوتَهم وجنى عمرهم. أمّا الثّمن الحقيقيّ فهو دمُهم الممزوجُ بدم المسيح الّذي، كما سمِعنا في رسالةِ القدّيس بطرس، “افتدانا لا بالفاني من الفضّة أو الذّهب، بل بدم كريم” (1 بطرس 1: 17). هذا هو الثّمن الأغلى على الإطلاق الّذي دفعه شهداؤنا وأهاليهم الّذي به يُفتدى الوطن.

لكُم أقول أيّها الأهالي المجروحون في أعماق قلوبكم: “ثِقوا وآمِنوا بأنَّ الله يُحبُّكم، يَتألّمُ معكم ويحيا فيكم ويُخفِّفُ من أحزانَكم. في الرّابعِ من آب الماضي كان يسوع على الصّليب معنا، وها هو اليومَ يدعونا إلى القيامةِ بكلِّ ما تعني من عمقِ إيمانٍ وسلامٍ داخليٍّ وحياةٍ جديدةٍ لمن راحوا”.

البشرُ يُعزّي بعضُهم البعض في المصائب العاديّة، أمّا في النكباتِ والكوارث، فالله وحدَه هو العزاءُ والرّجاء. هو مصدرُ القوّةِ ونَبعُ الحنان. منه نَستمِدُّ إرادةَ الاستمرارِ بعد المصيبة. فمِن جوارحِ الصّلاةِ يولد أحبّاؤنا بأشكالٍ أخرى، ويولد لبنان. وحين يقوم الشّهداءُ يقوم معهم الوطن.

وتأتي كلمة قداسة البابا فرنسيس صباح اليوم في المقابلة العامّة لتبلسم جراح أهل الضّحايا، والجرحى والمنكوبين، وكلّ اللّبنانيّين، فيقول في هذه الذّكرى لانفجار مرفأ بيروت الهائل: “أتجّه بفكري إليكم. وأوجّه اليوم من جديد نداءً إلى الأسرة الدّوليّة طالبًا مساعدة لبنان ليحقّق المسيرة نحو “القيامة”، ومساعدته بأفعال ومبادرات عمليّة وليس فقط بالكلمات.

وأتمنّى أن يسير في هذا الخطّ المؤتمر المنعقد اليوم بمبادرة فرنسا والأمم المتّحدة”.

ويختم: “أحبّائي اللّبنانيّين، كبيرة رغبتي لآتي وأزوركم، ولن أتعب في الصّلاة من أجلكم، لكي يعود لبنان فيكون رسالة أخوّة ورسالة سلام لكلّ الشّرق الأوسط!”. الحمدلله على كلمته والشّكر لقداسة البابا على تضامنه وصلاته.

في ضوء الكلام الإلهيّ المعزّي، وعاطفة قداسة البابا التّضامنيّة والمشجّعة واحترامًا لقدسيّة هذا اليوم، ووفاءً للضّحايا والشهداء ودموع أهاليهم، وآلام الجرحى وسائر المنكوبين أدعو وأناشد الإخوة والأخوات المتظاهرين تجنّب العنف والعبارات المسيئة والاعتداء على المؤسّسات والأملاك العامّة والخاصّة، وعدم التّعرّض للجيش والقوى الأمنيّة.

  1. لماذا جئنا إلى هنا؟

جئنا نصلّي ونرفعُ ذبيحةَ الفداء عن أرواح الشّهداء وسائرِ الضّحايا، وعن أولئك السّبعة الّذين ما زالوا ضائعين.

جئنا نؤاسي أمّهاتٍ وآباء، وبناتٍ وأبناء، وأقاربَ وأصدقاء. ونخشع أمام كلّ شهيد، وأمام شهداءِ فوج إطفاء بيروت والجسم التّمريضيّ وسائرِ الأجهزةِ الأمنيّةِ والعسكريّة. وأمام شهداءِ الواجب.

جئنا نَشكُر تَجمّعاتِ المجتمعِ المدنيّ، وقوى الانتفاضةِ الشّعبيّة والأحزاب، وجميعَ الأبرشيّاتِ وعلى رأسها أبرشيّات بيروت والجمعيّاتِ والمؤسّساتِ الإسلاميّةِ والمسيحيّةِ، وكلَّ الدّولِ الشّقيقةِ والصّديقةِ الّتي هَبّت تُساعد. جِئنا نُقدِّرُ الجهودَ الّتي بَذلها مُهندسون ومتطوِّعون في ترميمِ بيوتِ محيطِ المرفأ.

جئنا نصلّي لبيروت عروس المتوسّط، لمدينةِ تَلاقي الأديان. نَقِفُ معًا خاشعينَ بين الدّمارِ والأطْلال نُضيء شُعلةَ الرّجاء والمستقبَل ونَكتُب تاريخًا جديدًا للأجيال.

جئنا نتضامنُ مع أهالي الأشرفيّة والرّمَيل والصّيفي والجميّزة والمدَوَّر ومار مخايل والكرنتينا ووسط بيروت؛ ومع أهالي البَسْطة والمصيطبة وزقاق البلاط والخندق الغميق والمزرعة وعين المريسِة. مع جميعِ أهالي بيروت بكلّ أحيائها وضواحيها والمحيط.

  1. مطلبنا الحقيقة والعدالة.

نحن هنا لنطالب بالحقيقة والعدالة

ستبقى الأرضُ تَضْطرِب في هذه البُقعةِ إلى أن نعرِفَ حقيقةَ ما جرى في مرفأِ بيروت. لا تَدينُ الدّولةُ بالحقيقةِ لأهالي الضّحايا والمصابين والمتضرِّرين فقط، بل لكلِّ لبنانيٍّ، للأجيالِ اللّبنانيّة، للتّاريخِ والمستقبلِ وللضّمير. إنَّ العدالةَ ليست مَطلَبَ عائلات منكوبة، بل مَطلبَ الشَّعب اللّبنانيّ كلّه.

نريد أن نَعرِفَ مَن أتى بالموادِّ المتفجِّرة؟ مَن هو صاحبُها الأوّلُ والأخير؟ مَن سَمحَ بإنزالِها؟ مَن سَمحَ بتخزيِنها؟ مَن سَحَب منها كمّيّاتٍ وإلى أين أُرسِلت؟ مَن عَرَف خطورتَها وتغاضى عنها؟ ومَن طَلب منه أن يَتغاضى؟ من فجّرها وكيف تَفجّرت؟

ما جرى هو تدميرُ مرفأٍ مزدهِرٍ وعاصمةٍ تاريخيّةٍ وروحِ شعب. لذلك ندعو القضاءَ إلى الشِّدّةِ والحزمِ، إلى استجوابِ الجميع ومعاقبةِ المذنب وتبرئةِ البريء. ومعيبٌ أن يَتهرّبَ المسؤولون من التّحقيقِ تحت سِتار الحَصانة، أو تحتَ سِتارِ عريضةٍ من هنا وأخرى من هناك. الشّعبُ لا يريدُ عرائضَ؛ يريدُ حقائق. والعالم لا يريد قضاءً يَتعثَّرُ ويتباطأ؛ يريد قضاءً يستطيعُ أن يرفعَ رأسَه أمامَ الضّحايا والشّهداء…

واجبُ كلِّ مَدْعُوٍّ للإدلاء بشهادتِه أن يَمثُلَ أمام القضاء من دون ذرائعَ وحُجَجٍ، ومن دون انتظارِ رفعِ الحصانة. كلُّ الحصاناتِ تَسقط أمامَ دماءِ الضّحايا. لا حَصانةَ ضِدَّ العدالة. نَلطو وراءَ الحصانةِ حين نخافُ العدالة. من يخافُ العدالةَ يُدين نفسَه بنفسِه.

  1. ماذا نعلن من هنا؟

لأنّنا أقوياء بالحقيقة والعدالة، نحن هنا على أنقاض هذا المرفأ المدمّر:

نحن هنا لنعلن الوفاء لبيروت بإعادةِ بنائِها: بجمالِها وتراثِها، بقرميدِ بيوتِها وقناطرِها الأثريّة، بقصورِها وأبنيتها، بمَتحفِها وفنِّها، بأزهارها وأشجارها، برموزِ حضارتِها ورقيِّها وثقافتِها. بكنائسِها ومساجدها، بمدارسِها وجامعاتِها، بمستشفياتها ودورها، بجلساتِ مقاهيها وفنادقِها، بمكاتبِ صُحفِها ومؤسّساتِها الإعلاميّة، بمحلّاتِها التّجاريّةِ ومصارفِها، بمؤسّساتِها والاقتصاديّةِ والحِرَفيّة.

نحن هنا لنشَهدَ على وِحدةِ المسيحيّين والمسلمين في الولاءِ للبنان وحدَه.

نحن هنا لنُطلقَ نداءً إلى المسؤولين: “ألا هبّوا وألِّفوا فورًا حكومةَ إصلاحٍ وإنقاذ”. ولكن بكلّ أسف لا حياةَ لمَن نُنادي، كأنَّ لا شعبَ يجوعُ، ولا مرفأَ انفجر، ولا بلدَ انهار.

نحن هنا لنُطلقَ نداءً إلى دولِ العالم: “ألا هُبّوا أَنقِذوا لبنان”. لكنَّ العالمَ، عكسَ المسؤولين عندنا، بدأ يصغي إلى استغاثةِ اللّبنانيّين لأنّه يُحبُّهم، وصَمَّ أذانَه عن تَسوُّلِ الدّولةِ لأنّه لا يَثق بها وبطاقمِها.

فيما نحن مجتمِعون هنا، انعقد منذ قليلٍ في باريس مؤتمرٌ لمساعدةِ لبنان بمبادرةٍ مشكورة من الرّئيس الفرنسيّ وبمشاركة أمين عامّ الأممِ المتّحدةِ وملوكٍ ورؤساءَ من بينهِم الرّئيس الأميركيّ. هذا موقفُ صداقةٍ ونُبل. إنّ الدّول المشاركة تريد في العمق مساعدة الشّعب اللّبنانيّ وإنقاذه. فهم يعرفون أنّ شعبَنا زَرع العالمَ ثقافةً وحضارةً وسلامًا، وساهمَ في نهضةِ البشريّةِ وتعزيزِ العولمَة. ولكن لا يخفاهم أنّ المشاكلَ الّتي يَمُرُّ فيها لبنان ناتجةٌ أيضًا وخصوصًا من صراعاتٍ خارجيّة. فهو ضحيّةُ لعبةِ الأممِ. وكم مرةّ سُلِّم لبنانُ، رغمَ شعبِه، إلى أكثر من احتلالٍ ووصايةٍ في إطارِ الصّفقاتِ الإقليميّةِ والدوليّة. فبقدْرِ ما يجبُ على الشّعبِ اللّبنانيِّ أنْ يُغيّرَ في سلطتِه، يَجدُر بالعالم ِكذلك أن يُغيّرَ في سياستِه وأدائِه تجاه لبنان.

وفيما نشكر الدّول الصّديقة على المساعدة، نشير إلى أنَّ تجاوبَ العالمِ مع لبنان يبدأ بإنقاذِه اقتصاديًّا وماليًّا، ثمّ بعقدِ مؤتمرٍ دوليٍّ خاصٍّ به، يُعلنُ حِيادَه، ويَضعُ آليّةً فعّالةً لتنفيذِ جميعِ القراراتِ الدّوليّة، حتّى ولو استَدعى ذلك إصدارَ قراراتٍ جديدة.

نحن هنا لنؤكّدَ تصميمَ شعبِ لبنان على التّغييرِ عبر النّظامِ الدّيمقراطيِّ، وعبرَ الانتفاضةِ الشّعبيّةِ والثّورةِ السّلميّة. المرفأُ وَحَّدنا وأحْدَثَ تأثيرًا عميقًا ومُستدامًا في النّفسيّةِ اللّبنانيّةِ يُمكِنُ البناءُ عليه لنَجتمِعَ في الولاءِ الوطنيِّ والإيمانِ الرّوحيّ ونُعيدَ بناءَ ما تَهدّم.

  1. دعوة وطنيّة شاملة:

نحن مدعوّون إلى خلق زمن جديد، زمنِ التّغيير الإيجابيّ، فالتّغييراتُ الّتي شَهِدها لبنان منذ سنةِ 1975، أتت سلبيّةً بغالِبيّتِها. لم تُحدِث فارقًا في نوعيّةِ الزّمنِ والحياة. كلُّ تغييرٍ خارجَ الحرّيّةِ والإصلاحِ والنّهضةِ والحضارةِ ليس تغييرًا بنّاءً بل تقهقرًا.

نحن مدعوّون إلى حسن الاختيار والاقتراعِ في الانتخاباتِ النّيابيّةِ المقبلة، خصوصًا أنَّ المجلسَ الجديدَ هو الّذي سيَنتخِبُ رئيسَ الجُمهوريّةِ المقبل.

بَعدَ 17 تشرين الأوّل وبعد 4 آب وبَعدَ الانهيار، بَعدَ الفواجع، بعد سقوطِ الضّحايا والشّهداء… لا مكانَ للمساومات، بل للقراراتِ الشّجاعةِ الواضحةِ والشّفّافة. نحن نعيشُ في أجملِ وطنٍ، في أسوأِ مرحلةٍ، في ظلِّ أسوأِ حوكمةٍ. حافظوا على الوطن وغيّروا الباقي. فإذا الشّعبُ لم يَثبُتْ في موقفِه حتّى النصر لن تَنبثِقَ سلطةٌ جديدةٌ، ولن تأتي وجوه جديدة!

بادرنا جميعنا وحاوَرنا ونادَينا ورفعنا الصّوت… ماذا ينتظرُ أهلُ السّلطةِ كي يُعالجوا حاجاتِ النّاس؟ إِلى أيِّ قَعْرٍ يَنتظرون أن تَصِلَ البلادُ حتّى تَتحرَّكَ قلوبُهم ويَشعُروا بآلام النّاس، ويَعكُفوا على التّخفيف منها حتّى إزالتها؟ أيَّ تدبيرٍ جِدّيٍّ اتّخذوا، وأيَّ تدبيرٍ مفيدٍ نَفّذوا؟ لا يخجلون من ذواتِهم ومن المجتمعِ الدّوليّ المعنيّ بلبنانَ أكثرَ منهم بأشواطٍ وأشواط؟

ناداهُم الضّميرُ فلم يَأبَهوا، ناشَدَتْهم الأجيالُ فلم يَتحرّكوا. اتُّهِموا ولم يُبالوا. شُهِّرَ بهم ولم يَرِفَّ لهم جَفْن. أُحيلَ بعضُهم إلى القضاءِ ولم يَمتثِلوا. أَخْفقوا ولم يَعترفوا بفشلِهم. سَقطوا ولم يَدْروا. ويَتصرّفون كأنّهم انتصروا…

لقد زجّوا لبنان في القعر السّحيق. تراجع المجتمعُ، واخْتَلّت الدّولة، وانْتكَسَت الدّيمقراطيّة، وتأذّت الحياةُ الميثاقيّة، وأُسِيءَ عَمْدًا تطبيقُ “اتّفاق الطائف”، وتخّلفَت الثّقافةُ ببُعدَيْها التّعليميِّ والإبداعيّ.

هذه حالُ أيِّ بلدٍ يَقعُ تحت احتلالٍ ووصاية، ويُبلى بجماعةٍ سياسيّةٍ اختصاصيّةٍ بالمصالحِ الخاصّة. وهذه حالُ أيِّ بلدٍ تَهجُرهُ نُخبُه، ويَنقسِم شعبُه، ويَتخلّى عن هوّيتِه اللّبنانيّةِ والولاءِ الوطنيّ. وهذه حالُ أيِّ شعبٍ يُخطئ في اختيارِ ممثّليه.

مهما تغاضَت الجماعةُ السّياسيّةُ عن الواقعِ، وحاولت كسبَ الوقت، لن تستطيعَ قهرَ الشّعبِ إلى ما لا نهاية. نحن عشيّةَ تطوّراتٍ إقليميّةٍ ودُوَليّةٍ تؤكّدُ إيمانَ العالمِ بضرورة وجودِ لبنان، ودورِه الخاصّ، وتصميمَه على مساعدتِه. القضيّةُ مسألةُ وقت. إنقاذُ لبنانَ آتٍ لا مُحال. لكن، يبقى أن نُلاقيَ العالمَ من خلالِ عملٍ وطنيٍّ يُبرز إرادتَنا بالحياةِ معًا لكي يأتيَ الإنقاذُ برفقةِ وِحدة الكيان. ونعني الوِحدةَ في الحِياد، والوِحدةَ في اللّامركزيّةِ الموسَّعةِ، والوِحدةَ في تشريعاتٍ مدنيّةٍ، والوحدةَ في الحضارة والسّلام. لا نريد اقتتالًا بعدَ اليوم ولا قتالًا ولا حروبًا. لدينا فائضُ حروبٍ، وفائضُ شهداءَ، وفائضُ مقاوَمات. فلنتّجِه نحو الحرّيّةِ والسّلامِ. ولْنَكُن يَقظِين ونُبعِدْ عن كيانِنا التّاريخيِّ الخرائطَ الّتي تُحاكُ لمنطقِة الشّرقِ الأوسط.

  1. نداء من شهدائنا وضحايانا:

أكان تفجيرُ المرفأِ نتيجةَ إهمالٍ أم عملٍ إرهابيٍّ، هو بكل حال عدوانٌ على وجودِنا. الضّحايا الّذين سقطوا يَحُثُّوننا على الصّمودِ لا على الرّحيل. وطنُنا حيث يَرقُد أحِبَّتُنا. وأَحِبّتُنا أحياءُ يَنتظرون اليومَ الثّالث. سلاحُ الوجودِ هو أمضى سلاح. بقاؤنا بحدِّ ذاتِه انتصارٌ على المآسي. تَجاربُ التّاريخِ أثبتَت أنَّ الهزيمةَ تبدأُ في النّفوسِ قبل الجَبهات، والانتصارَ يَبدأ في المعنويّاتِ قبل الحسمِ النّهائيّ. كلُّ دمارِ بيروت يُعمَّرُ إذا بَقيَت المعنويّاتُ، لكنَّ دمارَ غرفةٍ واحدةٍ يَعصى على البناءِ إذا سَقطت المعنويّات.

ماذا سيَبقى من لبنانَ الكيانِ والشّراكةِ والفكرِ والثّقافةِ والرُّقيِّ والحضارةِ إن رَحلتُم؟ ماذا سيَبقى من لبنانَ الفنِّ والموسيقى والتّراثِ والتّعدّديّة الثّقافيّة والدّينيّة إنْ رَحلتُم؟ أنتم القيمةُ الأساسيّةُ والمضافَةُ في هذا الشّرق. لا تُحوّلوا الكارثةَ هزيمةً للإنسان. لا تَدعوا اليأسَ يَتجذّرُ فيكم. آلامُنا اليوم هي مَخاضُ الولادةِ. هذا هو صوت شهدائنا وضحايانا.

في المآسي والكوارثِ الكبرى يَفقِد الزّمنُ انتظامَه. تُصبح الأيّامُ سنواتٍ، والسّنواتُ دهرًا. لكنَّ كلَّ الزّمنِ بالنّسبةِ إلى الله هو جُزء من اللّامنتهى. ينظر إلينا الله برحمتِه ويَحتضن ضحايانا ويَضُمّهم إلى حنانِ قلبه وأنوار مجده. وكما وعد في رؤيا يوحنّا: “سيَمْسحُ كلَّ دَمعةٍ من عيونِهم، والمَوتُ لا يكونُ في ما بَعدُ، ولا يكونُ حزنٌ ولا صُراخٌ ولا وَجَعٌ، لأنَّ الأمورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ” (رؤيا يوحنّا 4.21). آمين.”

‫شاهد أيضًا‬

البابا فرنسيس يكتب تأملات درب الصليب في الكولوسيوم لأول مرة

وكالة آكي الإيطالية للأنباء – البابا فرنسيس يكتب تأملات درب الصليب في الكولوسيوم لأو…