الرّاعي: لبنان يحتاج إلى رحمة

تيلي لوميار/ نورسات
في أحد مولد يوحنّا، ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ في بكركي، رافعًا خلاله الصّلاة على نيّة الأشخاص ذوي إعاقة، وعلى نيّة عائلاتهم والمؤسّسات الّتي تُعنى بهم.
وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى الرّاع عظة بعنوان: “إسمه يوحنّا” (لو 63:1)، قال فيها:
“1.تحتفل الكنيسة، في هذا الأحد من زمن الميلاد، بعيد مولد يوحنّا. وهو حدث يحمل ثلاث حقائق لاهوتيّة وروحيّة عميقة هي: ولادة الرّحمة في بيت أليصابات العاقر، للدّلالة أنّ التّاريخ لا يُكتب بالعجز بل بالنّعمة؛ اسم يوحنّا يعني الله رحوم، فالاسم ليس مجرّد هويّة، بل رسالة ومسار حياة؛ انحلال لسان زكريّا، إذ زال بكمه عندما كتب: “اسمه يوحنّا”. فالرّحمة تحرّر والكلمة الإلهيّة لا تبقى ساكتة، بل تفتح الأذهان والقلوب المغلقة، وهكذا تعيد للكلمة دورها النّبويّ، وتظهر أنّ طريق الرّبّ يبدأ دائمًا بالرّحمة.
لم تكن ولادة يوحنّا حدثًا عائليًّا عاديًّا، بل كانت بداية مرحلة جديدة تعلن أنّ الله أمين لوعده. وحين جاء الأقارب ليهنّئوا، أرادوا تسمية الطّفل باسم أبيه، لكنّ الوحي الإلهيّ كان واضحًا: “يُدعى اسمه يوحنّا”، فيدرك الجميع أنّ هذا الطّفل لا ينتمي فقط لعائلة زكريّا وأليصابات، بل هو ابن الرّسالة، ابن الدّعوة، ابن الله. وفي اللّحظة الّتي كتب فيها زكريّا اسم ابنه، انفتح فمه وبارك الله، فصار النّطق بداية نبوءة، وصار الكلام شفاءً لسنوات الشّكّ. إنّ ولادة يوحنّا، وتسمية يوحنّا، ونطق زكريّا، ليست أحداثًا متتابعة فقط، بل هي مسار تهيئة لمجيء المسيح: يولد الرّجاء، يُعلن الاسم، وتُطلق الرّسالة بصوت نبيّ.
2. ونقيم اليوم القدّاس على نيّة الأشخاص ذوي إعاقة، وعلى نيّة عائلاتهم والمؤسّسات الّتي تُعنى بهم. إنّنا نحتفل اليوم بيومهم الدّوليّ الّذي يقام في الثّالث من شهر كانون الأوّل. ويتّخذ احتفال اليوم شعار: “كلّنا على صورته”، للدّلالة أنّ جميع النّاس مخلوقون على صورة الله الّتي توحّدهم في الكرامة والحقوق والمساواة. فإنّا نحيّي مكتب راعويّة الأشخاص ذوي إعاقة في الدّائرة البطريركيّة، ونشكره على تنظيم هذا الاحتفال.
نرفع صوتنا اليوم عاليًا لنقول: إنّ الأشخاص ذوي إعاقة ليسوا على هامش المجتمع، ولا على أطراف الدّولة، بل في قلبها. لديهم حقوق كاملة، إمكانات كاملة، قدرات يحملونها في كيانهم، حقّهم بالدّخول في الحياة الوطنيّة العامّة، في وظائف الدّولة، في القرار، في العمل، في الفرصة المتساوية، هو واجب لا منّة.
إنّ تأمين حاجاتهم، وتأمين أجورهم، وتسهيل حياتهم، ليس خدمة اجتماعيّة، بل واجب وطنيّ وإنسانيّ، وربح كبير لمجتمعنا. لقد أثبتوا عبر تاريخ طويل أنّهم قادرون ومقتدرون، وأنّهم يملكون طاقات تصنع فرقًا في مجتمعنا. نكرّمهم اليوم، ونصلّي لأجلهم، ولأجل من يخدمهم بالمحبّة والكرامة.
3. ولا بدّ من التّوقّف عند الحدث التّاريخيّ الّذي عاشه لبنان قبل أيّام قليلة، زيارة قداسة البابا لاون الرّابع عشر، الّذي غادرنا قبل أربعة أيّام فقط، زيارة ستبقى محفورة في تاريخ بلدنا. لقد دخل البابا أرض لبنان كحامل رسالة سلام ورجاء، كصوت يذكّر العالم بأنّ لبنان ليس مجرّد مساحة جغرافيّة، بل رسالة، كما قال سلفه القدّيس يوحنّا بولس الثّاني.
وكانت كلمات البابا، في عظاته وخطاباته، دعوة واضحة إلى المصالحة، إلى إعادة بناء الثّقة، إلى أن يعيش لبنان رسالته في التّنوّع، وأن يصنع من جراحه جسرًا للحوار. زيارة قداسة البابا كانت ثمرَة رحمة، ونسيمَ سلامٍ على وطن متعب، ولم تكن حدثًا يمرّ، بل علامة على مستقبل يجب أن نصنعه، لأنّ الزّيارات التّاريخية قيمتها بما تخلّفه، لا بما مضى منها.
لذلك نقول، كما تلهمنا تعاليم قداسة البابا، إنّ السّلام ثمرة الرّحمة، وثمرة الرّحمة المصالحة. فعندما يتجذّر فعل الرّحمة في حياة الإنسان والمجتمع، تُشفى القلوب من الأحقاد، وتنفتح الطّرق أمام اللّقاء الصّادق. وعندما تتحقّق المصالحة في الضّمير، في البيت، في السّياسة، وفي بنية الدّولة عندها فقط يبدأ السّلام أن يتجسّد واقعًا، لا مجرّد أمنية.
هذا ما حمله إلينا قداسة البابا في صوته الواضح: أن يتجاوز اللّبنانيّون منطق الانقسام، وأن يعودوا إلى روح الرّحمة الّتي تبني، وتُصالح، وتُعيد لوطنهم رسالته. فهنيئًا للبنان بهذه الزّيارة الّتي تذكّرنا بأنّ مستقبل هذا الوطن يبدأ من قلب يتّسع بالرّحمة، ويكبر بالمصالحة، ويثمر سلامًا للجميع.
4.بالعودة إلى إنجيل مولد يوحنّا، لبنان اليوم محتاج إلى هذه الرّحمة، إلى رحمة تفهم حاجاته، وتداوي أزماته، وتعيد إليه وجهه الحقيقيّ. لكن الرّحمة الّتي نحتاجها ليست رحمة الشّفقة، بل الرّحمة الّتي تغيّر وتبني، الرّحمة الّتي قاد الله بها تاريخ الخلاص: رحمة قويّة، فاعلة، متحرّكة. رحمةٌ تحوّل العقم السّياسيّ إلى ولادة حلول، تحوّل بكم المؤسّسات إلى كلمة حقّ، تحوّل صمت الدّولة إلى مبادرة، تحوّل الانقسام إلى حوار، تحوّل اليأس إلى مشروع.
لبنان يحتاج إلى رحمة على مستوى السّياسة كي تتحوّل السّلطة إلى خدمة، والحكم إلى مسؤوليّة، والقرار إلى ضمير. على مستوى الاقتصاد كي تُفتح أبواب العمل، وتُنقذ العائلات من أثقال الأزمة. على مستوى المجتمع كي يبقى الإنسان في قلب الاهتمام، بكرامته، وقدرته، وحقوقه.
على مستوى الشّراكة الوطنيّة كي تعود الثّقة بين مكوّنات الوطن، ويعود لبنان بلد العيش معًا، لا بلد الانغلاق والخوف. الرّحمة ليست ضعفًا في السّياسة، بل هي قوّة تصنع التّغيير. فالله لم يرسل يوحنّا لأنّه بحاجة إلى نبيّ، بل لأنّ النّاس بحاجة إلى صوت يعيد إليهم الرّجاء.
وهكذا نحن في لبنان: نحتاج إلى صوت يشبه صوت يوحنّا، صوت يوقظ الضّمير، وينادي بالعدالة، ويعلن أنّ المستقبل ممكن، وأنّ القيامة تبدأ من كلمة، ومن جرأة، ومن قرار.
5. إنّ اسم المرحلة رحمة، واسم الحكم خدمة، واسم السّياسة ضمير، واسم الدّولة كرامة الإنسان. نحن بحاجة إلى رحمة تترجم بمسؤوليّة صادقة، احترام القانون، حماية الضّعيف، دعم المؤسّسات، خلق فرص للمستقبل، ورؤية لا ردّات فعل.
العالم كلّه اليوم يبحث عن رحمة، لكن لبنان أكثر من يحتاج إليها، لأنّ الرّحمة وحدها تغيّر المسار وتفتح الطّريق. تمامًا كما فتح الله طريق الخلاص بولادة يوحنّا، يمكن لرحمتنا السّياسيّة والاجتماعيّة أن تفتح طريق القيامة الوطنيّة.
فلنصلّي، أيّها الإخوة والأخوات، كي تكون ولادة يوحنّا علامة لولادة لبنان جديد، وكي يتحوّل بكم الواقع إلى كلمة حقّ، وصمت المؤسّسات إلى مبادرات، وعقم السّياسة إلى مشاريع حياة، رافعين المجد والشّكر لله الرّحوم الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.”
في عيد الحُبل بها بلا دنس صلاة احتفاليّة في دير المعيصرة
تيلي لوميار/ نورسات تحتفل رهبانيّة الكرمليّين الحفاة في لبنان مساءً، في دير مار الياس- الم…
