أكتوبر 9, 2025

زيارة البابا لاوُن: لحظة ولادة جديدة لوطن يبحث عن ذاته

يسوعنا

تُعدّ زيارة الحبر الأعظم إلى أي بلد حدثًا استثنائيًا في حدّ ذاته، لما تحمله من رمزية دينية وروحية وإنسانية، فضلًا عن بعدها السياسي والدبلوماسي. غير أن زيارة البابا لاوُن إلى لبنان تحمل بُعدًا خاصًا، إذ تأتي في مرحلة دقيقة يمرّ بها هذا الوطن الصغير الذي لطالما شكّل رسالةً في الشرق والغرب، وموئلًا للتلاقي والحوار بين الأديان والطوائف.

لبنان الذي أطلق عليه القدّيس البابا يوحنا بولس الثاني عبارة شهيرة “لبنان أكثر من وطن، إنه رسالة”، يجد نفسه اليوم أمام فرصة جديدة لتجديد هذه الرسالة من خلال الزيارة البابوية المرتقبة.

منذ سنوات، يعيش لبنان واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخه الحديث: حروب، انهيار اقتصادي غير مسبوق، شلل سياسي، هجرة واسعة، وتراجع في الثقة بالمؤسسات.

هذا الواقع ألقى بظلاله الثقيلة على المجتمع اللبناني بمختلف مكوّناته، في خضمّ هذه العتمة، تأتي زيارة البابا لاوُن لتضيء شمعة أمل، ولتُعيد إلى اللبنانيين شعورهم بأنهم ليسوا منسيّين، وأنّ عيون الكنيسة الجامعة لا تزال تتطلّع إلى لبنان كقلب نابض في الشرق.

الزيارة، التي من المقرر أن تمتدّ بين 30 تشرين الثاني و2 كانون الأول 2025، لا تأتي بمعزل عن السياق العام في المنطقة، بل في لحظةٍ يشهد فيها الشرق الأوسط تحوّلات عميقة، وتراجعًا للحضور المسيحي في العديد من دول. من هنا، تُصبح بيروت محطة رمزية في جولة الحبر الأعظم، إذ تمثّل المنارة التي لم تنطفئ بعد في بحرٍ من الاضطرابات.

على الصعيد الروحي، تُشكّل زيارة البابا لاوُن تجديدًا للعهد بين الفاتيكان ولبنان. هي دعوة إلى المؤمنين في لبنان، مسيحيين ومسلمين، لكي يستعيدوا روح الإيمان والرجاء التي ميّزت تاريخ هذا البلد.

يحمل البابا معه رسالة وحدة ومصالحة، ويأتي كأبٍ يرغب في تضميد جراح الأبناء. رمزية الزيارة أيضًا تكمن في كونها تذكيرًا بأن الكنيسة لا تنفصل عن معاناة الناس، وأنها تُصغي إلى أنينهم وتُشاركهم الألم. ففي وقت تتفاقم فيه الأزمات، تأتي هذه الزيارة لتؤكد أن الإيمان لا يُلغى باليأس، وأن الرجاء لا يموت أمام الانهيار، بل يولد منه.

إلى جانب بُعدها الروحي، لا يمكن إغفال الجانب السياسي لهذه الزيارة. فالفاتيكان، بما يمثله من ثقلٍ أخلاقي ودبلوماسي عالمي، يوجّه من خلال حضور البابا رسالة واضحة إلى المجتمع الدولي مفادها أن لبنان لا يمكن تركه يسقط. لأنه يشكّل نموذجًا للتنوّع والعيش المشترك. كما أن البابا، من خلال لقائه مع القادة الدينيين والسياسيين اللبنانيين، يُعيد التأكيد على أهمية الحوار الوطني الحقيقي كطريقٍ وحيدٍ للخلاص. إنها دعوة إلى المسؤولين ليتحمّلوا مسؤولياتهم الأخلاقية تجاه شعبٍ يعاني، وتذكير بأنّ السياسة يجب أن تخدم الإنسان لا أن تُدمّره.

الزيارة أيضًا تُعيد تموضع لبنان على الخارطة الدبلوماسية العالمية، بعد سنوات من العزلة والانكماش. فهي مناسبة لتجديد العلاقات الدولية من خلال نافذة روحية وإنسانية، تفتح الباب أمام دعمٍ جديد يمكن أن ينعكس استقرارًا وأمانًا على الداخل اللبناني.

في ظلّ النزيف الذي يشهده الشرق الأوسط نتيجة الحروب والهجرة، تُعدّ زيارة البابا إلى لبنان بمثابة نداء صريح للمسيحيين كي يبقوا متجذرين في أرضهم. هي رسالة ثبات وصمود، تؤكد أن الحضور المسيحي في الشرق ليس تفصيلًا تاريخيًا، بل هو عنصر جوهري في توازن المنطقة وهويّتها الحضارية. يُريد البابا أن يقول من لبنان: “أنتم لستم أقليّة، بل أنتم ملح الأرض ونور العالم”، وهي عبارة تعبّر عن جوهر وجود المسيحيين ودورهم في صنع السلام والحوار والعدالة.

كما أن الزيارة تمثّل أيضًا تضامنًا مع المسلمين في لبنان والمنطقة، إذ يحمل البابا معهم رسالة مشتركة عنوانها “الإنسان أولًا”، بعيدًا عن الانقسامات العقائدية والسياسية.

من بين كل الأبعاد، يبقى البُعد الإنساني هو الأهم. اللبناني اليوم بحاجة إلى كلمة تُعيد إليه الإيمان بنفسه وبمستقبله، والبابا يأتي ليقول له: “انهض من يأسك، فأنت لست وحيدًا” الزيارة ليست فقط لحظة صلاة، بل لحظة ولادةٍ جديدة لوطنٍ يبحث عن ذاته. إنها نداء لكلّ لبناني أن يتذكّر أن رسالته في العالم لا تزال قائمة رغم كلّ الجراح.

رغم الزخم الروحي الكبير، لا يمكن تجاهل الصعوبات التي قد تعترض الزيارة.

فالواقع الأمني والسياسي في لبنان هشّ، والانقسام الطائفي عميق، والناس منقسمون بين الأمل والإحباط. لكنّ مجرّد إعلان نية البابا لزيارة لبنان يُعدّ بحدّ ذاته خطوة تتحدّى هذه الصعوبات وتكسر جدار الخوف، لتقول إن لبنان لا يزال يستحقّ الحياة، وأن صوت السلام أقوى من ضجيج السلاح.

زيارة البابا لاوُن إلى لبنان ليست حدثًا عابرًا، بل هي محطة مفصلية في تاريخ هذا الوطن. إنها زيارة تتجاوز البروتوكولات لتصبح فعل إيمان بالإنسان اللبناني، وإعلان تضامن مع شعبٍ جريح، ورسالة إلى العالم بأن لبنان لا يُختزل بأزماته، بل يُعرَّف برسالته. إنها صرخة رجاء، وتأكيد على أن هذا البلد، رغم كلّ ما مرّ به، لا يزال قادرًا أن يكون أرض اللقاء، وجسرًا بين الشرق والغرب، ومختبرًا حقيقيًا للعيش المشترك.

سنستقبل هذه الزيارة بروح الوحدة والرجاء، لتكون بداية فصل جديد من تاريخ لبنان، يُكتب بالحوار لا بالدم، وبالرجاء لا باليأس.

‫شاهد أيضًا‬

برنامج الزّيارة الرّسوليّة لقداسة البابا لاوُن الرَّابع عشر إلى تُركيّا ولبنان

برنامج الزّيارة الرّسوليّة لقداسة البابا لاوُن الرَّابع عشر إلى تُركيّا ولبنان يقوم قداسة …