يونيو 2, 2020

“القلب” في الكتاب المقدّس هو رمز للإنسان بكلّيته

الإنجيل اليومي

تاريخ شهر قلب يسوع

يُخطئ مَن يظنّ أنّ عبادة قلب يسوع الأقدس هي عبادة تقويّة نشأت في القرن السَّابع عشر. فإن كان ظهور المسيح للقدِّيسة مرغريت ماري ألاكوك في باريه لو مونيال قد كرّس هذا الشَّهر للعبادة، فإنَّ هذه العبادة تجد جذورها الرّوحيّة واللاّهوتيّة في العهد الجديد، وفي حدث المسيح الخلاصيّ.

حين نقول “قلب” في زمننا المُعاصر، نفكّر في المحبّة، في العاطفة، في الأحاسيس العابرة وفي المشاعر اللّطيفة. نحصر مفهوم القلب في مجموعة صِفات يُمكن للإنسان التمتّع بها: 

“قلب محبّ”، “قلب حسّاس”، “طيّب القلب”، “قويّ القلب”.

نحصر معنى القلب بمجموعة صفات عاطفيّة، أدبيّة أو خلقـيّة يمكن للإنسان التمتّع بها.

أمّا الكتاب المقدّس فيقدّم مفهومًا للقلب مُغايرًا تمامًا عن منطقنا المعاصر، فالقلب، في الكتاب المقدّس هو رمز للإنسان بكلّيته: هو صميم الشَّخص، وهو مركز وحدته وكينونته، وبالتّالي فهو مركز إنسانيّـته، الفكريّة والرّوحيّة والحسيّة والعاطفيّة.

بينما فصلت الفلسفة اليونانيّة بين عقلٍ وقلب، أي بين قدرة فكريّة وقدرة عاطفيّة، أصرّ الكتاب المقدّس على المحافظة على وحدة الإنسان العاقل والرّوحيّ والعاطفيّ، فلم يفصل بين هذه الأبعاد المختلفة، بل نظر إليها كميزات تجتمع في الشَّخص البشريّ وتكوّن وحدته كإنسان، فكان القلب رمز هذه الوحدة، وصار يعني هويّة الإنسان ويرمز إلى قيمته المُطلقة.

هذا المفهوم البيبليّ نجده في العهد الجديد، في ما يختصّ بشخص يسوع: لقد تكلّم الإنجيليّ يوحنّا عن قلب يسوع المفتوح على الصَّليب، خرج منه دمّ وماء، كان سبب إيمان الجنديّ الرّومانيّ، باكورة المؤمنين بعد موت يسوع على الصَّليب. 

هنا تجد عبادة قلب يسوع جذورها: عند الجلجلة، حيث عاينت البشريّة الإله المصلوب المتألّم حبًّا بها، أعطاها الخلاص من القلب المفتوح، أي من كلّية حقيقته الإلهيّة والإنسانيّة، من وحدة ألوهته وإنسانيّـته.

بهذا المعنى يُضحي قلب يسوع علامة وحدة الأقانيم، ويصبح ضمانة حضور المسيح الإله والإنسان في كنيسته. فكما أنّ القلب هو رمز وحدة الشَّخص البشريّ بالنسبة للعهد القديم، هو أيضًا علامة وحدة المسيح الكلمة إبن الله ويسوع الناصريّ إبن البشر وإبن مريم. 

عبادة الكنيسة لقلب يسوع، هي عبادة المسيح بطبيعتـَـيه الإلهيّة والإنسانيّة، في وحدة الأقنوم.

يخبر القدّيس يوحنّا في إنجيله:

«لكِنَّ واحِدًا مِنَ الجُنودِ طَعَنه بِحَربَةٍ في جَنبِه، فخرَجَ لِوَقتِه دَمٌ وماء». (يو ١٩، ٣٣-٣٧).

وفي سفر الرّؤيا يتكلّم يوحنّا على الحمل المذبوح قائلاً “المطعون”، نسبة إلى حدث طعن قلب يسوع على الصَّليب. (رؤ ٥، ٦).

ويصبح جرح القلب سبب الإيمان في إنجيل يوحنّا، فالجنديّ الذي طعن قلب يسوع أعلن:

“لقد كان هذا حقّاً إبن الله”، و يسوع دعا توما قائلاً “هَاتِ إِصبَعَكَ إِلى هُنا فَانظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي، ولا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِنًا» (يو ٢٨، ٢٠).

فكما أنّ معاينة قلب يسوع المطعون هو مصدر الإيمان، هكذا أيضًا تصبح عبادة قلب يسوع مصدر إيمان للشّعب المسيحيّ

وإن كانت عبادة قلب يسوع تجد جذورها في العهد الجديد، إلاّ أنّ آباء الكنيسة ومعلّميها قد أدخلوها في لاهوت الكنيسة وفي الحياة الرّوحيّة والتقويّة.

فقال القدِّيس يوحنّا فمّ الذّهب:

«إنَّ دم الحمل الذي جُعِلَ على عتبة بني إسرائيل في مصر كان رمزًا عن دمِّ المسيح ومنه اتّخذ كلّ قوّته فدفع عنهم ملاك الرّبّ لمّا ضرب أبكار مصر.

فإنّ قوي الرَّمز على ردّ ذراع الرَّبّ فما قولنا عن الحقيقة؛ ولكن أنظر مورد هذا الدّم الكريم المُحيي ألا وهو جنب المسيح… فلمّا طعنه الجنديّ خرج منه الماء أوّلاً وهو ماء المعموديَّة الذي يغسل أقذار خطايانا ثمّ خرج الدّم وهو الدّم السِّرِّي الذي يُروينا. 

قد فتح الجندي جنب إلهي وهدم الحاجز الذي كان يحجب عنّي قدس الأقداس وها إنّي وجدت كنزًا ثمينًا وأصبْتُ غنىً طائلاً

هذا هو جنب آدم الجديد الذي نُزِعَتْ منه وقت نومه على الصّليب حوّاء الجديدة أي الكنيسة عروسة المسيح ولذلك يحقّ القول في الكنيسة وفي أبنائها أنّنا لحم من لحمه وعظم من عظامه».

وكُتِبَ في محلٍ آخر “إنّ قلب يسوع إلهنا مفتوح. فلنَدنُ منه، ولنقبَل النِّعم الزاخرة التي تتدفّق منه بغزارة”.

وأوريجانيوس الإسكندريّ قال: «إنّ يوحنّا الرَّسول لمّا أتكأ رأسه إلى قلب يسوع وجد فيه كنوزًا دفينة من الحكمة والعلم فعرف حقّ المعرفة خفايا الرّبّ وأعلن بها إلى العالم».

وقال القدِّيس أمبروسيوس أسقف ميلان: «قد طعن الجنديُّ جسد الرَّبِّ بعد موته ففاضتِ الحياة من الميت وسال للبشر ماءٌ غسل ذنوبهم ودمٌ بُذِلَ فِداهم. فلنشرب ثمن خلاصنا كي نُفدى بشُربِه».

والقدِّيس أوغسطينوس: «قد أحسن الإنجيليّ بقوله أنّ الجندي فتح جنبه ولم يقل أنّه طعنه أو جرحه دلالة على أنّ جنب الرَّبِّ باب الحياة تفجّرت منه أسرار الكنيسة التي دونها لا يدخل أحد الحياة» وقال أيضاً: «قد فتح لك باب الحياة لمّا طعنت حربة الجنديّ جنب المسيح فاذكر ما سال منه واطلب به الطريق إلى الخلاص».  

ثمّ تطوّرت عبادة قلب يسوع من الناحيتين الليتورجيّة والرّوحيّة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر في إطار الحياة التقويّة الرّهبانيّة، لا سيّما لدى البندكتان والسيسترسيان.

فنجد القدِّيس بطرس داميانس (+1071) يكتب:

«قلب يسوع هو بخزانة تحوي جميع كنوز النعمة وينبوع الحياة الدّائمة».

والقدِّيس برنردس (+1159):

«قلب يسوع هو مسكن النفوس، ومقدس الأقداس، وتابوت العهد، وتمنّى أن يجعل له مظلّة في هذا القلب يسكن فيها إلى الأبد».

وشبّه القدِّيس توما الإكويني (+1274) قلب يسوع بفُلك نوح، وسيلة خلاص الجنس البشريّ، فقال:

«إنّ طعنة الجنديّ في جنب يسوع المسيح هي تُشبَّه بباب فُلك نوح الذي منه دخلت الحيوانات الناجية من الطوفان».

يقول القدّيس بونافنتورا:

“من الصّعب أن نكوّن فكرة عن لذة النفس الرّوحيّة التي تعبر عبر هذه الفسحة نحو قلب يسوع، لذلك لن أفسّر، إختبروا بأنفسكم وسوف تفهمون”.

وشكّلت رؤيا القدِّيسة جرترودة، في نهايات القرن الرّابع عشر، دفعًا قويًّا لهذه الممارسة التقويّة.

ففي عيد القدّيس يوحنّا الإنجيليّ، نالت هذه القدّيسة نعمة أن تتكئ رأسها، على مثال القدّيس صاحب العيد، على صدر المخلّص، فراحت تستمع إلى دقـَّات قلبه الإلهيّ.

وسألت القدّيس يوحنّا إن كان قد سمع هو أيضًا هذه الدقـَّات ساعة أتكأ رأسه على صدر الفادي في العشاء الأخير، ولماذا لم يُخبر في إنجيله عن جمال هذا الإختبار، فأجابها القدّيس أنّ هذا الإختبار قد تركه الله للأجيال الآتية، حين سوف يبرد الإيمان في العالم، فيكون هذا الإختبار لنموّ الحبّ من جديد.

وبقيت عبادة قلب يسوع تُمارَس بشكل فرديّ، أو في داخل الجماعات الرّهبانيّة منذ القرن الثالث عشر ولغاية القرن السّادس عشر. وفي القرن السّابع عشر، بدأ الرُّهبان اليسوعيّون بنشر هذه العبادة وأخرجوها من إطار العبادة الرُّهبانيّة واضعين إيّاها في إطار شعبّي وفي تصرّف المؤمنين.

وكان شهر حزيران من العام ١٦٧٤ محوريًّا، حين أعلن المخلّص، بواسطة رؤيا أعطاها للرَّاهبة الفرنسيّة مارغريت ماري ألاكوك من راهبات الزّيارة (في عيد مار يوحنّا الحبيب مثل القدّيسة جرترودة)، عن رغبته في نشر كنوز نعمته وحبّه للبشر، وطلب أن يتمّ إكرام قلبه الأقدس كتعويض عن حبّه الفادي، من خلال قبول الإفخارستّيا بتواتر، ولا سيّما في أوّل يوم جمعة من كلّ شهر.

وفي رؤيا أخرى في خميس الجسد من عام ١٦٧٥، قالت القدّيسة مارغريت ماري أنّ يسوع قال لها:

“ها هو القلب الذي أحبّ بني البشر، وبدل الإمتنان قبلت من أغلب البشر عدم الإمتنان…”

ومن ثمّ طلب منها يسوع عيدًا للتكفير عن الإهانات اللّاحقة بقلبه الأقدس، يكون يوم الجمعة، اليوم الثامن بعد خميس الجسد.

تعليم الكنيسة الرسميّ:

عام ١٧٦٥ وافق البابا اقليمندوس الثاني عشر على طلب أساقفة بولونيا الإذن بتثبيت عبادة قلب يسوع الأقدس، ليس فقط كرمز، إنّما أيضًا كحقيقة جسديّة.

عام ١٧٩٤، في رسالة رسميّة أصدرها البابا بيوس السّادس، حرم تعليم مجمع بيستويا المحلّي وشرح أنّ روما قد ثبّتت عبادة القلب الأقدس، وقال أنّ القلب الأقدس يُعبد كونه قلب يسوع، أي قلب شخص كلمة الله والمتّحد به بشكل لا ينفصل”.

عام ١٨٦٥ سمح البابا بيوس التاسع بنشر عبادة القلب الأقدس على نطاق الكنيسة في كلّ العالم بعد أن كان البابا اقليمندوس الثاني عشر قد سمح بها عام ١٧٦٥ على نطاق بولونيا. وفي مناسبة تطويب مارغريت مريم ألاكوك قال: “مَن يمكنه أن يكون قاسيًا وحديديًّا لدرجة عدم التأثّر وعدم الدّخول في حبّ هذا القلب الشَّديد العذوبة والذي، بسبب عذوبته، جُرح برمح؟”

وفي رسالته الرّسوليّة بتاريخ ٢٨ حزيران ١٨٨٥ يعلن البابا لاوون الثالث عشر قلب يسوع المطعون ملجأً وملاذ راحة للبشر ويعلنه علامة خلاص تُعتلَن لزماننا كما كان ظهور الصّليب في السّماء علامة لقسطنطين.

وفي 8 كانون الأول 1864 كتب البابا بيوس التاسع إلى مسيحيّي الشّرق يقول:

«… ونخصّ المؤمنين الشرقيّين أن يلوذوا في كلِّ حاجاتهم بالرّبّ السيّد المسيح الذي فدانا بدمه ويعبدوا التعبُّد الصَّادق لقلبه المملوء عذوبة وحلاوة ويطلبوا من هذا القلب الذي ضحّى نفسه لأجلنا كذبيحة الحبّ ومحرقة الوداد كي يجذب قلوب البشر إليه ويقيّدها بمحبَّته فتنال كلّها من دمِّ فضله الطافح وتثمر أثمار النعمة والخلاص».

في ١٥ أيّار ١٩٥٦، أصدر البابا بيوس الثاني عشر رسالة عامّة عنوانها “إستقوا المياه” يحتوي على واحد من أجمل النصوص التعليميّة الكنسيّة.

وقد شدّد بيوس الثاني عشر على حقيقة أنّ عيد قلب يسوع الأقدس، وإن كان قد نال أهميّة ليتورجيّة بعد الرؤى التي نالتها القدّيسة مارغريت ماري في باريه لومونيال، فهو حدث يجد جذوره في العهد الجديد، لا سيّما في دعوة يسوع إلى الجنس البشريّ للمجيء نحو قلبه الأقدس:

“تعالوا إليّ يا أيُّها المُثقلين بالأحمال وأنا أريحكم. إحملوا نيري عليكم، وتعلّموا منّي، فأنا وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم، لأنّ نيري ليّن وحملي خفيف” (متى ١١، ٢٨-٣٠).

وهكذا أعلنت الكنيسة، بتعليم كنسيّ رسميّ، وعلى لسان خليفة بطرس، أهميّة عبادة قلب يسوع الأقدس، كوسيلة قداسة ونموّ روحيّ.

‫شاهد أيضًا‬

رسامة سبعة شمامسة جدد في القدس: ابقوا خدمًا مثل المسيح

حراسة الأراضي المقدسة – موقع أبونا يوم السبت 13 نيسان، وفي كنيسة دير المخلص، في بلدة…