مايو 10, 2021

المتروبوليت عوده: كم نحن بحاجة إلى أناس يؤمنون بلبنان وطنًا نهائيًّا وحيدًا لهم

المتروبوليت عوده حرام تقديم المصالح الخاصّة على مصلحة الوطن والشّعب
في قدّاس الأحد الأوّل بعد الفصح، ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- بيروت، وللمناسبة ألقى عظة بعد الإنجيل المقدّس قال فيها:

“المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت، ووهب الحياة للّذين في القبور.

أحبّائي، ينتهي اليوم الأسبوع الّذي يلي الفصح، والّذي تدعوه كنيستنا المقدّسة “أسبوع التّجديدات”، لأنّنا نجدّد فيه يوميًّا التّعييد لقيامة الرّبّ، وكأنّ الأسبوع هو يوم واحد.

يدعى اليوم الأوّل من هذا الأسبوع “إثنين الباعوث”، أيّ “إثنين القيامة”، دلالةً على انبعاث بشرى القيامة إلى جميع الأمم. لذلك، نقرأ فيه الإنجيل المقدّس بعدّة لغات، لأنّ القيامة ليست حكرًا على أمّة واحدة، بل يشمل الخلاص البشريّة كلّها، وقد تجسّد المسيح وصلب ومات وقام لكي يعتق الجنس البشريّ بأجمعه من موت الخطيئة. واليوم، نقرأ الإنجيل نفسه، مع زيادة تتحدّث عن لقاء الرّسول توما بالرّبّ يسوع، وتفتيشه الجنب الطّاهر.

سمعنا في إنجيل أحد الفصح المقدّس كلامًا على يوحنّا المعمدان، كما سمعنا عنه أكثر يوم إثنين الباعوث. من خلال المعمدان، تعطينا الكنيسة دفعًا لكي نتشبّه بجرأته، ونكون أصواتًا صارخةً في برّيّة هذا العالم، ونعلن بشرى القيامة للجميع من دون خوف أو شكّ. لذلك أيضًا، سمعنا في إنجيل الباعوث عن توما، الّذي شكّ أوّلًا، ثمّ أصبح مثالًا للإيمان، وذهب ليعلن بشارة القيامة في بلاد الهند الّتي كانت وثنيّةً، ولم يخف أو يتردّد أبدًا. اليوم تدعونا كنيستنا المقدّسة إلى التّشبّه بالرّسول توما، وجرأته في التّفتيش عن الحقيقة، وإيمانه اليقينيّ بالرّبّ يسوع.

عيّدنا أيضًا يوم إثنين الباعوث للقدّيس العظيم في الشّهداء جاورجيوس، شفيع هذه الكاتدرائيّة المقدّسة، وشفيع مدينتنا بيروت.

الشّهيد العظيم جاورجيوس مثال للمؤمن الّذي لم يهب الحاكم الطّاغي، بل أعلن إيمانه بالمسيح بشجاعة، عالمًا أنّ إعلانه هذا سيكلّفه الكثير من الألم والعذاب وصولًا إلى الموت، إلّا أنّه لم ينثن. نرتّل في خدمة القدّيس جاورجيوس: “يا شهيد المسيح، إنّي أحترم جهاداتك الّتي كابدتها، أعني الجلدات والتّجريدات والضّرب بأعصاب الثّيران، والحبس والطّرح في جبّ الكلس وكلّ ما احتملته…”. تذكر هذه التّرنيمة جزءًا بسيطًا من العذابات الّتي كابدها القدّيس العظيم جاورجيوس، ومن بعدها قطع رأسه، إذ كان الحلّ الوحيد بعد نجاته من جميع محاولات القتل.

ينقل عيد العظيم في الشّهداء جاورجيوس إلى الفترة الفصحيّة، إذا وقع في فترة الآلام الخلاصيّة، لكي تؤكّد لنا الكنيسة أنّ الّذي يحتمل الآلام بعزم ثابت وإيمان غير متزعزع، لا بدّ أن يصل إلى القيامة. لذا نرتّل للقدّيس جاورجيوس هاتفين: “لقد بزغ ربيع بهيج، أعني قيامة السّيّد المنيرة الإلهيّة، ناقلةً إيّانا من الأرض إلى فصح سماويّ، ومعها يتلألأ تذكار الشّهيد جاورجيوس الكلّيّ شرفه السّاطع الضّياء، فلنقمه بابتهاج لكي نستحقّ النّعمة الإلهيّة من لدن المسيح المخلّص”.

في المسيحيّة، الشّهيد هو شاهد يبذل حياته وفاءً للشّهادة الواجبة للمسيح الّذي هو نموذج الشّهيد، لأنّه بموته الطّوعيّ أدّى شهادة أمانته العظمى  للرّسالة الّتي أولاه إيّاها الآب. إنّ الآلام الّتي كابدها الرّبّ يسوع هي جزء أساسيّ من رسالته وقد قال: “ابن الإنسان لم يأت ليخدم بل ليخدم ويبذل نفسه فديةً عن كثيرين” (متى 20: 28).

كم نحن بحاجة في هذه الأيّام الصّعبة، إلى أناس مؤمنين بالله، الّذي يجعلهم أمناء للوطن الممنوح لهم، لبنان، مؤمنين به وطنًا نهائيًّا وحيدًا لهم، يعيشون فيه إخوةً يتقاسمون فيه الحلو والمرّ، يشهدون له بلا خوف ولا تردّد، ويموتون دفاعًا عنه وحده وشهادةً لإيمانهم وتعلّقهم به. هؤلاء هم الخميرة الصّالحة الّتي تخمّر عجين المواطنين وتنشر فيهم الوعي بأنّ لا محبّة توازي حبّ الوطن والأمانة له، وأنّ دور المواطن الصّالح هو المساهمة في حفظ كرامة وطنه واحترام دستوره وتطبيق قوانينه والعمل مع مواطنيه من أجل المصلحة العامّة لا مصلحة الزّعيم أو الحزب أو الطّائفة.

كم نحن بحاجة إلى أشخاص يؤمنون بالمساواة بين البشر، ويحترمون إخوتهم في الإنسانيّة، ويدافعون عن كرامتهم وحرّيّتهم وحقّهم في العيش الكريم الآمن عوض حسدهم ومضايقتهم ومصادرة خيراتهم وحرمانهم من حقوقهم.

كم نحن بحاجة إلى مؤمنين بالله صادقين، لا يتوسّلون الدّين من أجل غاياتهم ومصالحهم، بل يشهدون لإيمانهم بأعمالهم الحسنة وسيرتهم النّاصعة وسلوكهم المستقيم.

كم نحن بحاجة إلى مسيحيّين مؤمنين بمسيحهم الغالب الموت، الّذي تنازل واتّخذ جسدًا من أجل خلاصنا، ومات ليفتدينا بدمه الكريم، مسيحيّين يشهدون لمسيحهم بالقول والفعل والحياة، دون خوف ولا مواربة، ويستشهدون من أجل إيمانهم به.

التّلاميذ كانوا مجتمعين خوفًا من اليهود، فجاء الرّبّ يسوع “والأبواب مغلقة”، لكي يؤكّد قيامته وينقل إلى تلاميذه الخائفين سلامه الفائق على كلّ عقل. يرى الآباء أنّ اجتماع التّلاميذ هذا كان مجمع الكنيسة الأوّل، وقد حضر المسيح لأنّه لا يغيب أبدًا عن كنيسته وهو القائل: “حيثما اجتمع إثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم” (مت 18: 20). توما كان غائبًا عن اجتماع الكنيسة، لأسباب يرى فيها الآباء القدّيسون عملًا إلهيًّا نتعلّم منه. توما أحبّ المسيح كثيرًا، لكنّه أراد براهين ملموسةً وحججًا يفهمها عقله، لكي يطرد الشّكّ والخوف باليقين. لقد فتّش عن حقيقة الحياة في آثار المسامير وكان له ما طلب، إذ منحه الرّبّ نعمة تفتيش الجراح، فأصبحت آثار المسامير بابًا عبر منه نور اليقين إلى نفس توما.

غاب الرّسول توما عن اجتماع التّلاميذ، كمن يغيب عن الكنيسة في أيّامنا، فحصل معه ما يحدث مع الّذين يغيبون عن اجتماع الكنيسة في سرّ الشّكر، بلا سبب أو لحجج واهية. هؤلاء يحرمون أنفسهم حضور المسيح الحقيقيّ، إذ إنّ المسيح حاضر بجسده ودمه في كلّ قدّاس إلهيّ. إنّ الخبز والخمر اللّذين يتحوّلان إلى جسد المسيح ودمه الحقيقيّين، هما العنصران “المادّيّان” الوحيدان اللّذان نقدّم لهما سجود عبادة، لأنّهما المسيح بكامله، وبسبب اتّحادهما بالرّوح القدس في الاستحالة (حلول الرّوح القدس على القرابين)، فإنّهما ينبوع نعمة الله. لهذا، نرفض أيّ كلام مسيء، ولو كان نابعًا من ذوي اختصاص علميّ، يمسّ بجسد الرّبّ ودمه. فإنّ كلّ حديث إعلاميّ يتهكّم على المناولة المقدّسة، إنّما هو تجديف على الرّوح القدس، ونحن نقرأ في الإنجيل أنّ “كلّ خطيئة وتجديف يغفر للنّاس، وأمّا التّجديف على الرّوح القدس فلن يغفر للنّاس” (مت 12: 31). لذا، لا يختبرنّ أحد رحمة الرّبّ، ولا يمسّوا جسد المسيح ودمه بسوء لفظيّ، بل الحريّ بهم أن يبحثوا عن الأسباب الحقيقيّة لانتشار الأمراض والأوبئة. إنّ جسد الرّبّ ودمه يعطيان للمؤمنين لشفاء النّفس والجسد، وهذا إيماننا، وعليه سنبقى ثابتين، وقد تأكّدنا مثل توما من هذه الحقيقة. نحن نعرف كهنةً وقدّيسين خدموا سنوات طويلةً في المستشفيات، وكانوا يناولون المرضى والموبوئين، ثمّ يتناولون من بعدهم ما يتبقّى في الكأس المقدّسة، ولم يمرضوا بتاتًا. لا نتحدّث عن خرافات، بل عن المسيح القائم من بين الأموات، الّذي خلّص العالم من الموت، والّذي لن يسمح بأن ينتقل أيّ مسبّب للموت عبر جسده الطّاهر ودمه الكريم.

أيّها الأحبّة، لا تخافوا إن اعترضتكم آلام هذه الحياة، ولا تيأسوا أو تفقدوا جرأة الإيمان وثباته، بل دافعوا عن الحقّ بكلّ ما أوتيتم من قوّة. نقرأ في سيرة القدّيس جاورجيوس أنّه غضب لما آلت إليه حال المؤمنين وما نزل بهم من ظلم بلا ذنب سوى أنّهم يعبدون الإله الحقّ ويحترمون كلّ سلطان على الأرض. فبدأ يجاهر بلوم الإمبراطور، غير هيّاب ولا حاسب لغضب ذلك العاتي حسابًا. نصحه رفاقه أن يقلع عن ذلك خوفًا من أن يحلّ به ما حلّ بغيره من سخط ذاك الجبّار المستبدّ، أمّا جاورجيوس فلم يعبأ بكلامهم، بل ازداد حماسةً وانتصارًا لإخوانه سرًّا وعلنًا. القدّيس جاورجيوس لا يزال ذاك المدافع عن المؤمنين الطّالبين شفاعاته، وهو، كما نرتّل له، المحرّر والمعتق للمأسورين، والعاضد للفقراء والمساكين، والطّبيب الشّافي للمرضى، والمكافح المحارب عن المؤمنين. لهذا، علينا ألّا نيأس، طالما لدينا شفعاء حارّين كالقدّيس جاورجيوس، والرّسول توما، ويوحنّا المعمدان، وسواهم من القدّيسين الّذين كابدوا الظّلم والتّعذيب والنّفي والقتل. عندما نرى مثال القدّيسين أمامنا، لا نعود نهتمّ بأيّ عذاب دنيويّ، بل نتمسّك بالرّبّ فقط، وكلّ أمر آخر يزاد لنا.

وإذ نحن نتحدّث عن الشّهادة لا بدّ من ذكر الشّهداء الّذين أقمنا ذكراهم في 6 أيّار، الأبطال الّذين استشهدوا  من أجل الحقّ والحرّيّة، حرّيّة الوطن وحرّيّة القلم. هؤلاء رفضوا الذّلّ وحكم الغريب، وناضلوا وتكلّلوا بإكليل الشّهادة. فليكن ذكرهم وسائر الشّهداء مؤبّدًا.

دعوتنا اليوم ألّا نشكّ أبدًا بقدرة إلهنا النّاهض من بين الأموات، وأن نطلق الصّوت عاليًا مبشّرين بالقيامة البهيّة، الّتي علينا أن نظهرها من خلال عيشنا إيّاها، شاكرين الرّبّ على كلّ امتحان نمرّ به، إذ هدف هذه الامتحانات أن يقوى إيماننا، لا أن نصل إلى اليأس المميت للنّفس والجسد.

ولنصرخ دائمًا، من كلّ قوّتنا، تلك الصّرخة الفصحيّة الّتي تذكّرنا بأنّ لا شيء يقوى على الإنسان المؤمن بالرّب، ولنهتف: المسيح قام، حقًّا قام!”.

‫شاهد أيضًا‬

الكاردينال يو: ما زال الأمر يستحق العناء أن نكون كهنة، نحن مدعوون لكي نكون سعداء

موقع الفاتيكان نيوز صحيفة الأوسيرفاتوري رومانو في حوار مع عميد دائرة الإكليروس بمناسبة الي…