ديسمبر 27, 2023

رسالة البطريرك لويس روفائيل ساكو لعيد الميلاد ٢٠٢٣

موقع الفاتيكان نيوز

“كلمة الله هي شخص حيّ اسمه يسوع قبل أن يصبح/ تصبح كتابًا مقدَّسًا. لقد صار جسَدًا، وسكن بيننا. وجسَّد هذا التعليم في ذاته” هذا ما كتبه البطريرك لويس روفائيل ساكو في رسالته بمناسبة عيد الميلاد المجيد

بمناسبة عيد الميلاد المجيد وجّه البطريرك لويس روفائيل ساكو بطريرك الكنيسة الكلدانية في العراق رسالة إلى المؤمنين الكلدان في العالم، كتب فيها بمناسبة عيد الميلاد المجيد، والعام الجديد ٢٠٢٤، أتقدم الى كلِّ واحدٍ وواحدة منكم، بتهانيّ الأخوية، وتمنياتي بالنعمة والصحة والسلام والفرح. ونحن إذ نستعد لعيد ميلاد المسيح، ضروريٌّ أن نفكرَ بشكل جاد بإيماننا بالمسيح، وان نجدّد التزامَنا به بوضوح، في عالمٍ لا يُبالي بالقيم الانسانية والروحية، ويستسلم بأنانية للماديات والشهوات، عالم بدأ يعتمد أكثر فأكثر على الذكاء الاصطناعي من دون تقييم مخاطره على البشرية، عالم يختلف تماماً عن السابق؛ عالم أنظمته السياسية والأمنية والاقتصادية غير مستقرّة، عالم يعيش حروبًا في اوكرانيا والاراضي المقدسة، وصراعاتٍ هنا وهناك، بينما الناس المساكين ينتظرون إحلال السلام الذي أعلنه الملائكة ليلة الميلاد “وعلى الارض السلام”  وما يزالون يفتقدونه!

الكنيسة: على الكنيسة الجامعة، وكنيستنا الكلدانية، أن تمارسَ رسالتها بشجاعة ومن دون خوف، وتبشر برسالة المسيح، رسول السلام والاخوَّة والمحبة، والّا تتوقف عن المطالبة بحقوق الناس وحريتهم وكرامتهم، وإحقاق العدالة والمساواة، على أساس المواطنة الكاملة. من هو المسيح بالنسبة لنا وما الجديد الذي جلبه؟ نحمل أحيانًا كثيرة أفكارًا خاطئة عن المسيح، أفكارًا خياليّة غير واقعية، ولا تتماشى مع الكتاب المقدس. ونتعامل معه كشخص مجرّد، بدل أن يكون شخصًا حقيقيًّا. الكريستولوجيا (لاهوت المسيح) ليست حزمة من التنظيرات والتجريدات. في ظل الظروف التي نعيشها في العراق والاراضي المقدسة ولبنان وسوريا، يبدو أن دور المسيحيين الريادي في مدّ الجسور مع بعضهم البعض، ومع غيرهم تراجع، لذا لم يعودوا قادرين على التأثير، فتوجَّهوا إلى الهجرة. نحن المسيحيون المشرقيون نحتاج أن يكون لنا وعيٌّ كاملٌ بإيماننا، ومعرفة وافية به بعيدًا عن المعلومات المُعَلًّبة التي ألِفناها، حتى يظلّ قلب المسيح نابضًا فينا، فنبثّ الرجاء في القلوب والانتعاش الانساني والاخوي والروحي في مجتمعاتنا.

الحقيقة هي عند من يَعيشُها بصدق وينقلها بأمانة. يجب أن نعرف من هو المسيح بالنسبة لنا وما الجديد الذي أتى به. هذا هو السؤال الجوهري الذي طرحه يسوع نفسُه على التلاميذ. وجاء جواب بطرس: “أنت المسيح، ابن الله الحيّ”. هذا الإيمان يبيّن من نحن وماذا ينبغي أن نكون. في سينودس الأساقفة عن السينودسيّة، طلبتُ في مداخلتي المقتضبة ان يبحث آباء السينودس عن لغة جديدة، ومفردات مختارة ومفهومة لتقديم الإيمان المسيحي، للناس بحسب ثقافتهم الحالية، لان العقلية تغيَّرت، والثقافة اختلفت عن الماضي. يكشف الانجيل طبيعة إنسانية يسوع، وبنوّته الالهية وكرامته ورسالته الخلاصية. المعروف عند مفسّري الكتاب المقدس أن الكُتَّاب إستعملوا أجناسًا أدبية معروفة Formgeschichte لإيصال الرسالة – المعنى، لذلك علينا ان نقرأ النصوص المقدَّسة بتمعن، ونبحث عن المعاني ما وراء الحروف لننمو معها.

ولد المسيح من مريم الطاهرة، التي قمًّطته وأرضعته، وربَّته. بكى وصرخ، وأكل وشرب ونام ولعب مع أقرانه. وعندما كبر اشتغل وتعب. وهذا لا ينتقص من عظمته. كان ليسوع اصدقاء وصديقات، وعائلات عزيزة على قلبه مثل عائلة لعازر واختاه مريم ومرتا، وشارك مع مريم امّه، ومار يوسف في عرس صديقٍ بقانا الجليل، وإلا ما معنى أنه صار إنساناً كاملاّ، وأنه “مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، ما عدا الخَطِيَّةٍ”. بدأ المسيح رسالته عندما بلغ عامه الثلاثين. وشكَّل حولَه حلقةً من التلاميذ والتلميذات لمواصلة رسالته. وكانت التنشئة في زمانه تستغرق ثلاث سنوات. الاقلية قَبِلتهُ ورَفَضَتْهُ الاغلبية. في النهاية صلبَه اليهود، لكن الله أقامه لأمانته. قيامته هي من مستوى آخر للوجود، وتشكل رجاءنا في حياة كاملة ومفرحة.

المجتمع الذي عاش فيه يسوع كان عبارة عن مزارعين ورعاة ورجال دين يهود متشددين، لم يكن لديهم وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي نملكها اليوم: مثل الكمبيوتر والموبايل والراديو والتلفزيون والصحف. المسيح كان يملك ذاته. كان يملك الموهبة والنعمة، وقلباً نابضاً يُصلي، وجسَداً مرهفاً يُحب الجميع، ويخدمهم من دون استثناء: “ابن الإنسان جاء ليَخْدُم لا ليُخْدَم”. المسيح بشَّر بالله كأب، ينبوع المحبة. كلُّ كلامِه دار حول حقيقةِ الله، وحبِّه الأبوي. وسلَّطَ الضوءَ على بنوَّتنا له، وأعتبارنا أخوات وإخوة في عائلة واحدة هي عائلة الله، في غاية الفرح والسعادة. هذا هو السرّ الجديد الموحى بيسوع المسيح، والذي كلَّمنا عنه بشغف وجرأة، وجسَّده قولاً وعملاً.

علَّمنا أن الحبَّ يبقى ابداً لان الله محبة، و”المحبة لاَ تَسْقُطُ أَبَداً”. وهَبَنا “روحَهُ الإلهي”، شعلة حبِّه، لنكون على صورته ومثاله، أليس هو “البِكر”؟ كلمة الله هي شخص حيّ اسمه يسوع قبل أن يصبح/ تصبح كتابًا مقدَّسًا. لقد صار جسَدًا، وسكن بيننا. وجسَّد هذا التعليم في ذاته، حتى عندما كانت خدمته موجِعة بسبب مقاومة السلطات له: السياسيون ورؤساء الكهنة والاغنياء. المسيح هو كلمة الله، يتحدث عنه، وباسمه بدون تكلُّف. وأعطى عاديّات حياته معنىً وروحًا وحبًّا مدهشًا. الله في يسوع ويسوع في الله: “كما أنك فيّ يا أبتِ، وانا فيك، فليكونوا هم أيضًا فينا”. الله غير المنظور صار منظوراً في يسوع “من رآني رأى الآب”. أليس هذا هو “التَجسُّد”؟

من هذه العلاقة الحميمة تنبع الروحانيّة والأخلاق وتستمر الى النهاية. هوية المؤمن المسيحي متعلقة بهوية يسوع المسيح.  يسوع دعا الى التوبة –التغيير –metanoia  أي قبول “الحداثة – الملكوت”. هذا التعليم يجب ان يستنهضنا ويعطينا النعمة والقوة لنسير معه نحو القيامة. انطلاقاً من هذه الروحانية تكلَّم يسوع عن الصلاة والمحبة والغفران المتبادل وخدمة الآخرين بالكامل: “كل ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي فعلتموه”. أعطانا جسده في سرِّ القربان المقدس لنتناوله، وليبقَ معنا، لنشعر جميعاً أننا أخوات وإخوة.

يقول البابا القديس يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة الاولى “فادي الانسان” سنة ١٩٧٩: “لا يمكن للإنسان أن يعيش بدون حبّ، لانه يبقى كائناً غير مفهوم لنفسه؛ حياته لا معنى لها إذا لم ينكشف له الحبّ؛ إذا لم يجده؛ إذا لم يختبره بنفسه ويشارك فيه مشاركة حميميّة. ولهذا السبب فإن المسيح الفادي “يكشف الإنسان لنفسه بالكامل”… هذا هو البعد الإنساني لسرّ الفداء. في هذا البعد [الحب المضحّي] يجد الإنسان مرة أخرى العظَمَة والكرامة والقيمة التي لإنسانيته”. عمليًا: الإيمان هو السير على خطى المسيح بجذرية في وضعنا الحالي التعبان نحتاج أكثر للإصغاء الى المسيح “الانجيل الحيّ”؛ لمعرفة صوت الله، والتعلُّم منه، وتطبيقه بجذرية، لنكون في الميلاد. خلاصُنا يقوم على الاقتداء بالمسيح، ومثلما فاجأت قيامته الباهرة الجميع، هكذا سيُفاجئنا الله بحلٍّ جميلٍ لمشاكلنا وظروفنا الصعبة. ألم يحلّ مشكلة النسوة، زائرات قبره الحائرات: “مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الْحَجَرَ عَنْ بَابِ الْقَبْرِ؟ فوجدنَ الحجر قد دُحرج عن القبر وكان كبيراً”.

 لنتَّكل عليه فكراً وقلباً. وليكن موقفنا ثابتًا وشجاعًا بالرغم من انه متطلّب: “أستطيع كلَّ شيء بذاك الذي يقوّيني” لكي اُحَوّل كلّ شيءٍ الى نعمة. الصلاة كانت حياة يسوع، ينبغي ان ترافق حياتنا أيضًا، بكونها اوكسجين روحانيتنا. لنسلّم له ذاتنا كما سلَّمها يسوع: “يا ابتاه في يديك استودع نفسي”. كان يسوع يتلو صلوات قصيرة بسيطة ومؤثرة مثلاً: “أَيُّهَا الآبُ، مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضاً”، “إلهي إلهي لماذا تركتني؟”، “لِتَكُنْ لَا مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَتُكَ”. إبحث أنتَ ايضًا عن صلوات اُخرى في الإنجيل. لنصلّي نحن ايضًا بنفس الثقة: “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض”. ولنطلب المغفرة عن أخطائنا: “أغفر لنا كما نحن نغفر لمن أساء الينا”.

لا نَخَفْ، إن الله يقبلنا حتى عندما نخطأ. انه يحبنا ويستقبلنا ويدللنا كما استقبل ودللَّ الاب ابنه الشاطر (الضال) الذي أنكره وأهدر ماله. لنتجاوب معه، انه عمانوئيل (الله معنا)، أليس هذا وعده الأبدي؟ ولنترك الامور الاخرى فهو يفعل كلَّ شيء للخير. عيد ميلاد مجيد، وكل عام وأنتم بخير! إمنح يا رب السلام والاستقرار للعراق والاراضي المقدسة والعالم.

‫شاهد أيضًا‬

ندوة توعية حول العنف القائم على النوع الاجتماعي في عكار برعاية كاريتاس وصندوق الأمم المتحدة للسكان

ندوة توعية حول العنف القائم على النوع الاجتماعي في عكار برعاية كاريتاس وصندوق الأمم المتحد…