سبتمبر 18, 2021

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي – قدّاس مع أكاديميّة بشير الجميّل – بكركي – السبت ١٨ أيلول ٢٠٢١

بكركي – السبت ١٨ أيلول ٢٠٢١

“وعلّمهم أن على إبن الإنسان … أن يُقتل، وبعد ثلاثة أيّام يقوم” (مر 8: 31)

  1. بعد أن أعلن سمعان بطرس إيمانه بيسوع في قيصريّة فيليبّس، بأنّه “المسيح إبن الله الحيّ” (مرقس 8: 27-29)، “شرع يسوع يعلّمهم أن على إبن الإنسان أن يتألّم كثيرًا ويُرذل من الشيوخ وعظماء الكهنة والكتبة، ويُقتل، وبعد ثلاثة أيّام يقوم” (مرقس 8: 31).
    كان على إبن الله منذ الأزل الذي صار إنسانًا في الزمن، وإتّخذ إسم “يسوع المسيح”، وسمّى نفسه “إبن الإنسان”، أن يحقّق فداء الجنس البشري، ويخلّصه من أسر الخطيئة والشيطان بموته، ويبعثه لحياة جديدة بقيامته. فكانت نبوءته مقتصرة على آلامه وقتله، وهذا ما شكّك بطرس وجعله يعترض ويقول: “حاشاك، يا ربّ، أن يكون لك هذا! أمّا يسوع فانتهره قائلًا، اذهب عنّي يا شيطان. فإنّك تفكّر لا في ما هو لله، بل في ما هو للناس” (متى 16: 22-23).
  2. بالألم والرجاء نحيي بهذه الليتورجيا الإلهيّة الذكرى التاسعة والثلاثين لإستشهاد رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة المنتخب، الشيخ بشير بيار الجميّل. الألم كبير وما زال يدمي قلوب أفراد عائلته، والذين عرفوه، والذين ناضلوا معه وقاوموا من أجل لبنان وسيادته واستقلاله وكامل مساحته، ومن أجل كرامة الوطن واللبنانيّين المحرَّرة من كلّ عمالة وخضوع وولاء لأيّ وطن غير لبنان؛ كما يدمي قلوب الأجيال التي تتعرّف على شخصيّته من خلال كلماته ومواقفه، وعلى الأخصّ الذين ينتسبون إلى أكاديميّة بشير الجميّل في جامعة الروح القدس الكسليك، التي تجمعنا اليوم حول هذه الذبيحة المقدّسة إحياءً لذكراه. وقد دعا إليها الدكتور ألفرد ماضي رئيس هذه الأكاديميّة.
    أمّا الرجاء فيظلّ مشتعلًا في نفوسنا. ولئن لم “يقم”لبنان” بالحلّة الجديدة التي أرادها له الرئيس الشهيد الشيخ بشير، فإنّه سلم من المكايد التي كانت تحاك له، والتي من أجل تحقيقها كانت الميليشيات والإحتلالات والخطف والإغتيالات واهتزاز الأمن وحروب الآخرين على أرضنا. فحمت الوطن دماء شهدائه، وعلى الأخصّ دماء الشيخ بشير التي لا تثمّن بالغالي من الفضّة.
  3. صحيح أن تسعًا وثلاثين سنة مضت على استشهاده، من دون أن يأتي أحدٌ يملأ فراغ غيابه الكبير الذي أوجده بعهد دام فقط واحدًا وعشرين يومًا وقبل تسلّمه مقاليد الرئاسة. فكان هذا العهد مثال الحكم القويّ والمنقذ والنظيف والجامع والموحِّد الذي يعكس شخصيّته.
    فالرئيس بشير قويٌّ بالمفهوم السياسيّ، ومنقذٌ وطنيّ شامل، ونظيفٌ بتجرّده وهيبته وشخصيّته، وجامعٌ بتعاليه على حزبيّته وفئويّته وطائفته وصار رئيسًا لكلّ اللبنانيّين. كان الإلتفاف الوطنيّ حوله ظاهرةً خاصّة، وقد أصبح بعد ساعات قليلة من انتخابه زعيم من خاصموه كما زعيم من أحبّوه فتركوا خلافاتهم وأيّدوه. وهو رئيس موحِّدٌ أعاد بناء دولة لبنان الكبير، ودولة لبنان المستقلّ، ودولة لبنان المقاوِم؛ واستوعب كلّ الأحاسيس والحساسيّات اللبنانيّة. أيّده الشعب أساسًا لعفويّته وصدقه وتجرّده من المصالح والحصص، وتأييد الشعب أصدق من تأييد القيادات.
  4. الرئيس بشير مثل ومثال لكلّ من يرغب في الحكم، أكان رئيسًا، أم سلطة تشريعيّة، أم حكومة. إختار بشير حَلَّ المشاكل على إدارةِ الأزَمات، والتحالفاتِ على التسويات، والتحالفاتِ الوطنيّةَ على التحالف الطائفيّ، والتزام المبادئ أساسًا للعمل. ما كان يَسمحُ للمؤقت أن يكون دائمًا. كان يملِك القدرةَ على قلبِ المعادلاتِ لا الخضوع لها. كان مع الشعب في كلّ الأوقات. كان مع الناس على تواضع وبساطة حياة.
    إنّه المثل والمثال في مقاومته التي هدفها حماية لبنان من كلّ إعتداء وتحريره من كلّ ولاء لبلدٍ آخر، وتحرير قراره، والحفاظ على نظامه الديمقراطي والشراكة الوطنيّة. ما كان بشير ثوريًّا أو انقلابيًّا، بل مقاومًا يؤمن بالتغيير من خلال التراث الوطني والقيم الإنسانيّة. كان الإنسان ولبنان والحريّة والسيادة والكرامة والدولة والشهداء محور نضاله.
    حدود مقاومته وقفت أمام المجلس النيابي والقصر الجمهوري والنطام اللبناني والميثاق الوطني. وحدود علاقاته الخارجيّة وقفت عند حدود مصلحة لبنان العليا وعلى باب السيادة والإستقلال. لم يشعر أنّه مَدين إلا للمقاومين والشهداء والناس ذوي الإرادة الحسنة.
  5. وصيّته لنا اليوم: أن نعيد للدولة كيانها ووحدتها وهيبتها ولبنانيّتها خشية أن نذهب فرق عملة في لعبة الدول. نحن لا نعتقد أن القوة العسكرية قادرة على حماية لبنان بمنأى عن “لبْننة” القرار الوطني. لا بل إن القوة العسكرية التي يملكها هذا الفريق أو ذاك خارج إطار الشرعية، تجلب الحروب لا السلام. القوة هي حماية مرحلية، بينما السلام هو الحماية الدائمة. كلّ دولة مهما عظمت تبقى محدودة القوّة في غياب السلام.
    ويوصينا بشير بالمحافظة على كرامة لبنان وشعبه من خلال المحافظة على سيادته المنبسطة على كامل أراضيه.
    عندما وصل يسوع إلى بيت عنيا، وكان صديقه لعازر قد مات منذ أربعة أيّام لاقته اخته مرتا، وقالت له: “يا ربّ، لو كنتَ هنا لما مات أخي” (يو 11: 28). ونحن نستطيع القول قياسًا: “لو ظلّ بشير حيًّا وأكمل عهد رئاسته لَـما كان لبنان تدهور منذ آخر الثمانينات وما زال يتدهور سياسيًّا واقتصاديًّا وماليًّا، ولَـما سقطت سيادة الدولة، وأصبحت حدودها سائبة، ولا من سلطة عسكريّة شرعيّة تستطيع حمايتها، كما شهدنا بكلّ أسف وألم في أواخر هذا الأسبوع، كيف انتهكت حدودنا، وديست هيبة الدولة، وألغي وجودها في وضح النهار. وما زادنا إيلامًا هذا الصمت المدقع من السلطة السياسيّة والسياسيّين، إذ نحن في زمن تجارة الإنتخابات واستجداء الأصوات. فيا للرّخص!
    ايها الاخوة والاخوات؛
    نصلّي لكي يكلّل الله بالمجد السماويّ الرئيس الشهيد الشيخ بشير، وينعم على بلادنا من أمثاله لكي نحلم بغد أفضل. ونرفع نشيد التسبيح للآب والإبن والروح القدس، الأن وإلى الأبد آمين.
    *    *    *

*    *    *
#البطريرك_الراعي #البطريركية_المارونية #شركة_ومحبة #حياد_لبنان #بكركي

‫شاهد أيضًا‬

“ابحثوا عن المفاوضات. ابحثوا عن السلام”

موقع الفاتيكان نيوز في مقابلة مع محطة “سي بي أس” الأمريكية البابا يتوجه إلى ال…