فبراير 19, 2023

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي-أحد مدخل الصوم

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي-أحد مدخل الصوم

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي

أحد مدخل الصوم 

بكركي – 19 شباط 2023

“كان يسوع وأمّه وتلاميذه في العرس “ (يو 2: 1-2)

1. إفتتح يسوع رسالته الخلاصيّة ومعه الكنيسة الناشئة، أي أمّه وتلاميذه، في عرس بشريّ، وكأنّه استباق لعرسه الخلاصي. ففي عرس قانا الجليل حوّل، بتشفّع أمّه مريم، الماء إلى خمرٍ فائق الجودة. وبذلك قدّس الحبّ البشريّ في الزواج. أمّا في عرسه الخلاصيّ، وبحضور رسله الإثني عشر، فحوّل الخمر إلى دمه لفداء خطايا البشر، في عهد حبّ جديد وأبديّ مع البشريّة جمعاء. وبهذا بدأ زمنُ التغيير الجديد في الإنسان والكون.

2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة، مفتتحين في هذا الأحد زمن الصوم الأربعينيّ المقدّس، راجين أن يتحقّق فينا وفي كلّ إنسان التجدّد في حياته الخاصّة نحو الأفضل بالفكر والقلب والمسلك. وهذا ما يهدف إليه هذا الزمن الليتورجيّ أي: الصيام والصلاة والصدقة. هذه الثلاثة نتكلّم عنها بإسهاب في رسالتي العامّة لزمن الصوم، وهي بموضوع: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان” (متى 4: 4)، للدلالة أنّ الإنسان يحتاج لحياة جسده وروحه، إلى خبزين: الخبز الماديّ، وخبز جسد المسيح الفادي. 

3. فيطيب لي أن أرحّب بكم جميعًا، وأحيّي كلّ الذين واللواتي يشاركوننا في هذه الذبيحة المقدّسة عبر وسائل الإتصال الإجتماعي وبخاصّة تيلي لوميار-نورسات. في هذا الأحد المبارك تبدأ رابطة كاريتاس-لبنان حملتها السنويّة، وموضوعها العام “مكملين بدعمكن” فأحيّي باسمكم جميعًا رئيسها عزيزنا الأب ميشال عبّود الكرمليّ، وأعضاء المجلس والمسؤولين عن الأقاليم والمراكز على كامل الأراضي اللبنانيّة، والموظّغين والمتطوّعين وشبيبة كاريتاس، الحاضرة دائمًا في السلم وفي حالات الطوارئ، والمرشد العام والمرشدين الإقليميّين. 

وأوجّه تحيّة شكر خاصّة لسيادة أخينا المطران ميشال عون الذي أشرف لسنوات على رابطة كاريتاس باسم مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وأرحّب بخلفه سيادة المطران أنطوان بو نجم راعي أبرشيّة أنطلياس شاكرًا له ما سيبذل من جهود في خدمته هذه. وكل مرة نلتقي مع كاريتاس نتذكر البدايات، فنحيي سيادة اخينا المطران سمير مظلوم اول رئيس لها والذي ارسى اساستها، كما احيي الرعيل الاول الذي اراه امامي وكل الذيت تفانوا في هذه الخدمة المحبة للمسيح.

4. قبل البدء بالتعريف عن كاريتاس لبنان ونشاطاتها في خدمة المحبّة باسم الكنيسة في لبنان، أعرب معكم عن الألم العميق لإستشهاد ثلاثة جنود من الجيش اللبنانيّ الذين كانوا منذ يومين يقومون بواجبهم الوطنيّ قيامًا بعمليّة دهم لمخدّرات وسيّارات مسروقة وآر بي جي وقنابل يدويّة وأسلحة وذخائر حربيّة وأعتدة عسكريّة، ولوحات سيّارات مسروقة، وأجهزة إلكترونيّة وخليويّة. والشهداء هم: الرقيب بول أنطوان الجردي (23 سنة من تعلبايا) والرقيب جورج فيليب أبو شعيا (22 سنة من أبلح)، والمعاون أوّل حسن خليل شريف (34 سنة من مقراق بعلبك وله ثلاثة أولاد). وكان استشهادهم في عمليّة دهم المطلوبين في حورتعلا-بعلبك. فإنّا نذكرهم في هذه الذبيحة المقدّسة ملتمسين من رحمة الله راحتهم الأبديّة في السماء، وعزاء أهلهم وعائلاتهم، وقيادة الجيش وسائر أركانه ورتبائه وضبّاطه وجنوده، ونسأل الله أنّ يعوّض على الجميع بسلامتكم، وبحماية الجيش اللبنانيّ ونموّه وعزّته. فلا يمكن لمنطقة محافظة بعلبك-الهرمل أن تظلّ خارج دائرة الأمن اللبنانيّ، ومحميّة من النافذين بسلاحهم وأحزابهم وسلطتهم.

5. رابطة كاريتاس –لبنان هي جهاز الكنيسة الرسميّ المشترك الراعويّ-الإجتماعيّ، على غرار الشمامسة السبعة الذين أنشأهم الرسل لخدمة المحبّة تجاه الفقراء والأرامل، لكي يتفرّغوا هم لخدمة الكلمة وتوزيع نعمة الخلاص (راجع أعمال 6: 1-7). فانطلقت الكنيسة ملتزمةً بثلاث خدم مترابطة ومتكاملة: خدمة الكلمة بإعلان إنجيل المسيح لحياة الإيمان، وخدمة الأسرار لتقديس النفوس بالنعمة الإلهيّة، وخدمة المحبّة المنظّمة والشاملة لمن هم في حالة فقر وحاجة. تنتسب إذن كاريتاس-لبنان إلى صميم هيكليّة رسالة الكنيسة التي تسلّمتها من المسيح الربّ.

6. إنّ حملة كاريتاس-لبنان السنويّة تقتضي مساهمة الجميع، بحيث يقدّم كلّ واحد وواحدة منّا ما يجود به من قلبه وذات يده، كثيرًا كان أم قليلًا، للمساعدة في خدمة المحبّة، وتعزيز برامج كاريتاس المتنوّعة ومن بينها: 

  • الخدمات الصحية من خلال مراكزها العشرة في مختلف المناطق، ومن خلال عياداتها النقالة التسع التي تجوب وتؤمّن الاستشارات الطبية الاساسية والادوية لأصحاب الامراض المزمنة. 
  • تأمين دعم مالي مباشر او عبر المستشفى لكل من يطلب مساعدتها بدون تمييز. 
  • تقديم خدمات إجتماعية متعددة في مختلف القطاعات ولا سيما للاطفال واصحاب العمر الثالث، ومنهم لاجئون واجانب من جنسيات مختلفة. وتشمل توزيع  حصص غذائية وتأمين المأوى والمساعدات المالية الطارئة والدعم النفسي والاجتماعي، وخدمات تربوية خاصة في مراكز التعليم المتخصص للأشخاص ذوي الإحتياجات الخاصة وعددها أربعة.
  • برامج خاصة بالاجانب المقيمين في لبنان فتوفر لهم ما يحتاجون اليه من سبل الرعاية الصحية والاجتماعية والسكنية والقانونية وسواها. 
  • تعزيز التنمية المستدامة، وتأمين المساكن لإيواء عائلات محتاجة، والمطاعم التي تقدم الغذاء اليومي لمن يطلبونه.

لقد عملت كاريتاس-لبنان جاهدة للإنفتاح على المجتمع الدولي من خلال إجتماعات مكثفة مع عدد كبير من سفراء الدول الكبرى ومع مختلف المنظمات الدولية والجهات المانحة. وفي المقابل زارها عدد من البعثات الدبلوماسية وكذلك الجهات المانحة وقد أتوا لتنفيذ برامجهم ووضع خطط إستراتيجية. وإنّ كاريتاس-لبنان مشكورة كانت وما زالت داعمةً للإنسان والإنسانية رغم كل المعضلات والمصاعب. وستظل دائبةً في دعمها للمُحتاجين ليس فقط في لبنان ، بل وفي البلدان المجاورة إذ وسّعت نطاق عملها لتصل الى سوريا عبر شبيبة كاريتاس بعد الزلزال الذي أصابها. لكنَّها لا تستطيع أن تكمل مسيرتها العطائية الّا من خلال استمرار دعم الجهات المانحة والمنتشرين اللبنانيين، ومساعدة الأيادي البيض التي طالما كانت الداعم الأبرز لها على الصعيدين الإنساني والمادي. كلهم نذكرهم في هذه الذبيحة المقدسة لكي يعوض الله عليهم بفيض من عطاياه وبركاته لكي يظلّوا شهودًا لمحبة الله في العالم.

7. العرس في قانا هو المجال الأوّل، حيث بدأ يسوع الرسالة الموكولة إليه من الآب، وقد حانت ساعتها عند طلب أمّه: “ليس عندهم خمر”. فأجرى الآية وأعلن البشرى الجديدة، أي حلول ملكوت الله الموعود في الكتب المقدّسة منذ أجيال، “فأظهر مجده وآمن به تلاميذه”. بالحقيقة من يقبل كلام المسيح، يقبل الملكوت نفسه.

8. عرس قانا صورة مصغّرة عن الكنيسة: يسوع رأسها والتلاميذ أركانها، ومريم أمّها، والجماعة الحاضرة نواة شعبها. الماء المحوّل خمرًا استباق للأفخارستيّا ولتحويل الخمر إلى دمه المراق لفداء البشر. العروسان أوّل كنيسة مصغّرة بيتيّة. العرس في قانا هو أوّل زواج كسرّ بعد زواج يوسف ومريم. الخمرة الجيّدة هي رمز محبّة الله ونعمته. 

9. مريم أمّ يسوع وأمّ الكنيسة تشفع من أجل أعضاء جسد ابنها، البشر المفتدين بدمه: “ليس عندهم خمر”. تلتمس تدخّل ابنها، الوسيط الوحيد بين الله والناس، هي التي جعلت نفسها “أمة الربّ”، المستعدّة لخدمة عطاءاته المجّانيّة، النابعة من استحقاقات المسيح ابنها. بوساطتها وتشفّعها تدعم اتّحاد المؤمنين المباشر بالمسيح: “إفعلوا ما يقول لكم”. إنّ وساطتها مرتبطة بأمومتها الحاضرة، بدون إنقطاع في الكنيسة، حضور الوسيط الذي يتشفّع. ولهذا تدعوها الكنيسة: “المحامية والمعينة والمغيثة والوسيطة” (الدستور العقائديّ في الكنيسة 62). مريم الحاضرة في الكنيسة هي مثال الإيمان والمحبّة في اتحادها الكامل بإرادة الآب وعمل الفداء الذي يتمّه ابنها، وإلهامات الروح القدس، بل هي التحقيق النموذجيّ لسرّ الكنيسة (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة 967). وهي علامة رجاء أكيد وتعزية أمام شعب الله المسافر في هذا العالم وسط المحن والضيقات، وفي الوقت عينه تمثّل الكنيسة وتدشّن اكتمالها في مجد السماء (المرجع نفسه 972). 

10. في عرس قانا تظهر قدسيّة الزواج وكرامته. لقد قدّسه يسوع بحضوره وأصبح “كنيسة بيتيّة مصغّرة”. هذه القُدسيّة والكرامة تأتيه من حضور يسوع وأمّه وتلاميذه في العرس فكانوا مع العروسين والمدعوّين الكنيسة الناشئة. “استبقاء الخمرة الجيّدة إلى الأخير”، وهي عطيّة يسوع بتشفّع أمّه، إنّما يرمز إلى خمرة النعمة النعمة والمحبة الإلهيّة التي تقدّس حبّ العروسين، وتعضدهما في مسيرة حياتهما الزوجيّة والعائليّة، وتشكّل ينبوع سعادتهما.

هذا هو “المجد الإلهيّ الذي أظهره يسوع، وآمن به تلاميذه” (يو 2: 11)

أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء،

11. العرس هو فرحة العمر في حياة الإنسان والمجتمع. كم كنّا نودّ مع الشعب اللبنانيّ أن نعيش فرحة عرس العيش معًا في وطنٍ لبنانيّ يؤمّن فيه المسؤولون السياسيّون ولا سيما نوّاب الأمّة طيب الحياة للجميع، بانتخاب رئيس للجمهوريّة، لكي تعود الحياة الدستوريّة المنتظمة بمجلس نوّاب يعود ليكون هيئة تشريعيّة، وبحكومة شرعيّة كاملة الصلاحيّات كسلطة إجرائيّة. 

فيا أيّها المسؤولون السياسيّون والنوّاب والنافذون والمعطّلون بوجه أو بآخر، لقد حوّلتم عرس لبنان وشعبه، وجمال طبيعتِه، وغنى موارده إلى مأتم كبير. ووشحتموه برداء أسود من الفقر والجوع والحرمان والتهجير. تهجّرونه من وطنه، وتفتحون أبوابه لمليونين وثلاث مئة ألف نازح سوريّ، ما بدأ يفوق نصف الشعب اللبنانيّ.

ترفضون أيّ نصيحة من الدول الصديقة والحريصة على استقرار لبنان واستعادة قواه، وكلّ دعوة ملحّة لإنتخاب رئيس للجمهوريّة، فتدعون ذلك تدخّلًا ومسًّا بكرامتكم. إنّهم يريدون حمايةَ لبنان منكم، من كلّ عدوّ له يأتيه من الداخل، وانتشال الشعب من براثن أنانيّانكم وكبريلئكم ومشاريعكم الهدّامة. فلا لبنان خاصّتكم، بل خاصّة شعبه! ولا الشعب غنيمة بين أيديكم، بل غنى لوطنه لبنان. فارفعوا أيديكم عن لبنان وشعبه.

اخوتي، اخواتي،

12. هذه الصرخة نستودعها رحمة الله وأبوّته للجميع، الإله العادل ماقت الشرّ والظلم. له المجد والتسبيح الآن وإلى الأبد، آمين.

‫شاهد أيضًا‬

عظة البطريرك الرَّاعي – الجمعة العظيمة

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي الجمعة العظيمة بكركي – 29 آذار 2024 _______…