مايو 17, 2021

عوده: المطلوب تعاون من أجل الإنقاذ وتحصين البلد من تداعيات الصّراعات الخارجيّة

هنّأ متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده بعيد الفطر السّعيد، “سائلًا الرّبّ الإله أن يحفظهم ويحفظ وطننا لبنان من كلّ مكروه”، مستهلّاً بذلك عظته بعد الإنجيل المقدّس خلال قدّاس الأحد الّذي ترأّسه في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- بيروت.

ثمّ تابع وقال: “أحبّائي، تعيّد كنيستنا المقدّسة اليوم للنّسوة الحاملات الطّيب، إضافةً إلى يوسف الرّامي ونيقوديموس التّلميذ اللّيليّ.

نسمع في تراتيل خدمة جنّاز المسيح: “إنّ التّلاميذ قد فقدوا جرأتهم، وأمّا يوسف الّذي من الرّامة فقد أبدى جرأةً وشهامةً، لأنّه لمّا شاهد إله الكلّ ميتًا عاريًا، طلبه وجهّزه…”.

كان القانون اليهوديّ يجيز لذوي المحكوم بالإعدام أن يستلموا جسده ليدفن، لكنّ أحدًا لم يجرؤ على طلب جسد يسوع، فقام يوسف بالمهمّة ودفنه في قبر جديد، مع أنّه لم يكن قريبًا ليسوع أو من التّلاميذ الإثني عشر، بل كان شخصًا معروفًا في المجتمع اليهوديّ.

نيقوديموس أيضًا كان من أغنى أغنياء اليهود، وكان ذا مركز في المجتمع اليهوديّ، لكنّه لم يأبه لكلّ ذلك وأراد أن يصير تلميذًا للرّبّ، وقد أدّى اعترافه الإيمانيّ بالرّبّ يسوع إلى خسارته كلّ ما يملك، وطرده من مركزه. وقد نفي من أورشليم، فخسر العالم ليربح الملكوت، واعتمد على يد الرّسول بطرس.

إسم “نيقوديموس” يعني “المنتصر على الشّعب”، وقد ترجم انتصاره على شعب اليهود ربحًا ما بعده ربح إلى جانب الرّبّ، وها هي الكنيسة تذكره ليس فقط بسبب تطييبه جسد يسوع، بل بسبب جرأته على المجيء إلى الرّبّ أوّلًا لكي يتعلّم الإيمان الحقّ، كما بسبب جرأته على ترك كلّ شيء من أجل إيمانه. يعلّمنا يوسف ونيقوديموس ألّا نفضّل أيّ غنًى أرضيّ أو ممتلكات أو مراكز على إيماننا بالرّبّ يسوع. هذان الرّجلان هما دينونة لكلّ زعيم أرضيّ يتمسّك بلقبه وكرسيّه وممتلكاته، وينسى أنّه مخلوق زائل، ويظنّ أنّ من حقّه استعباد خليقة الله، والتّنكيل بهم وتجويعهم وإفقارهم.

أمّا النّسوة الحاملات الطّيب، فلم يخفن من الذّهاب وحدهنّ إلى القبر، مع أنّ الحجر الموضوع عند الباب كان عظيمًا جدًّا. إندفعن بالإيمان الّذي أضرم نفوسهنّ ولم يبالين بالمخاطر الخارجيّة. لم يصغين إلى منطقهنّ بل إلى قلوبهنّ الّتي تملّكتها محبّة المسيح. نرتّل في قانون الفصح: “أيّها المسيح، إنّ النّسوة المتألّهة ألبابهنّ، قد بادرن إليك بطيوبهنّ، والّذي كنّ يلتمسنه كمائت وهنّ باكيات، قد سجدن له إلهًا حيًّا وهنّ فرحات، وبشّرن تلاميذك بالفصح السّرّي”. النّسوة الحاملات الطّيب أصبحن أوّل من شهد للقيامة البهيّة، وبشّرن الرّسل بالقيامة.

كثيرون يتحدّثون عن عدم مساواة بين الرّجل والمرأة، لكنّ الإثنين متساويان في نظر الرّبّ يسوع ومعاملته لهما، وفي بعض الأماكن تفوّقت النّساء على الرّجال كحال حاملات الطّيب اللّواتي لم يخفن أو يختبئن مثل التّلاميذ، بل كانت لديهنّ المحبّة العميقة الّتي لا تسكن إلّا في قلوب المتواضعين. هنّ خدمن المسيح “من أموالهنّ” (لو 8: 3)، لأنّهنّ رأين الحياة الحقيقيّة في المسيح وكلامه. طبعًا زعزعهنّ الحكم عليه بالموت، لكنّهنّ لم يعرضن عنه، بل تبعنه من بعيد، وبعد موته استمرّت خدمتهنّ لجسده المائت قبل أن يعرفن يقين القيامة.

من ناحية ثانية، سقط الرّسول بطرس، وهو التّلميذ الّذي أحبّ المسيح حبًّا فائقًا، ووصل إلى حدّ إنكار المسيح. عندما قال المسيح لتلاميذه ليلة اعتقاله: “كلّكم تشكّون بي في هذه اللّيلة” لم يدرك بطرس كلام الرّبّ يسوع، بل ميّز نفسه عن التّلاميذ الآخرين معترضًا: “إن شكّ فيك الجميع فأنا لا أشكّ أبدًا” (مت 26: 33). لقد ارتبط حبّه للمسيح بثقته المطلقة بنفسه، لكنّه، عندما اشتدّت وطأة الصّعوبات، أنكر معرفته بالمسيح (مت 26: 72).

نسمع في إنجيل اليوم الملاك الّذي كرز لحاملات الطّيب بالقيامة يقول لهنّ: “إذهبن وقلن لتلاميذه، ولبطرس، إنّه يسبقكم إلى الجليل، هناك ترونه”. هكذا، كشف لحاملات الطّيب أنّ الله قبل توبة الرّسول بطرس، الّذي خاف يوم التّسليم وأنكر المسيح. وعندما تحوّلت ثقته بنفسه إلى تواضع، وأغرق عجرفته بدموع التّوبة الحارّة، رجع إلى مصفّ الرّسل ليصبح فيما بعد كارزًا جريئًا بالإنجيل.

عظمة حاملات الطّيب تظهر بتحرّرهنّ من الأوضاع الصّعبة المحيطة بهنّ. لم تتأثّر محبّتهن للمسيح بموته الأليم، ولا ببغض الكتبة والفرّيسيّين له. شجاعتهنّ منحتهنّ الحرّيّة والاستقلاليّة وسط الحزن الكبير. حاملات الطّيب والرّسول بطرس ويوسف ونيقوديموس يقودوننا إلى طريق الحرّيّة الحقيقيّة، الّتي تستند إلى فضيلة الشّجاعة، شجاعة التّخلّي عن الأنا واتّباع الحقّ. لقد أحبّوا المسيح وتحلّوا بالتّواضع العميق. المحبّة الحقيقيّة تغلب الخوف، والتّواضع العميق يعتق من قيود الاعتداد بالذّات، وكلاهما معًا يجعلان الإنسان عاملًا شجاعًا ومقدامًا.

كم نحن بحاجة إلى من يحبّ بلدنا وشعبه محبّةً حقيقيّةً صادقة. كم نحتاج إلى مسؤولين وزعماء مستعدّين أن يتخلّوا عن أموالهم ومراكزهم وكبريائهم بسبب محبّتهم الحقيقيّة لوطنهم. كم نحتاج إلى زعماء متواضعين مثل الرّسول بطرس، يتراجعون عن أخطائهم ويذرفون دموع التّوبة على ما فعلوه تجاه إخوتهم في الوطن. والأهمّ، كم نحتاج إلى شعب يتحلّى بجرأة النّسوة الحاملات الطّيب، يقدم وسط الضّغوطات والأحزان والتّهديدات، حتّى يصل إلى القيامة المرجوّة.

إنّ منطقتنا تغلي وزعماءنا ما زالوا يعلّون أناهم ومصالحهم على كلّ شيء. وعوض التّفكير بلبنان ومصيره في خضّم ما يجري من اقتتال هنا ومفاوضات هناك ومحادثات هنالك، هم لا يفكّرون إلاّ بمصالحهم ومستقبلهم ومكتسباتهم، ويتعلّقون بحرفيّة بعض النّصوص أو بتفسيرهم الشّخصيّ لها، ضاربين عرض الحائط روحيّتها وغايتها.

هل أصبحت السّياسة تجارةً تبتغي الأرباح والمنافع عوض الخدمة؟ معيب حقًّا ومخجل أن يكون بلدنا في هذا الوضع المزري ولا نشهد خطوةً إنقاذيّةً واحدة، أو تلاقيًا بين المسؤولين من أجل مناقشة الوضع وابتداع الحلول. نسمع بين وقت وآخر من يتكلّم عن محاولة لجمع الأطراف قد فشلت، أو عن سعي لجمعهم لم ينجح. هل هكذا تدار الأوطان؟ وهل الحرد أو المقاطعة مسموحان في ظرف عصيب كالّذي نعيشه؟ الحكومة المستقيلة عاجزة ليس فقط عن إدارة البلد، بل حتّى عن وقف الانهيار أو إدارته، ولم نشهد منذ أشهر إرادةً حقيقيّةً لتأليف حكومة تحاول اتّخاذ إجراءات سريعة تضع البلد على طريق الإنقاذ.

هل مسموح أن يعادي مسؤول مسؤولًا أو أن يمتنع عن الاجتماع به لاتّخاذ الخطوات الضّروريّة؟ هل يعي من يتولّون تعطيل البلد وعرقلة الحلول أنّهم يرتكبون خطًّا مميتًا بحقّ الوطن والمواطنين؟

يقول إشعياء النّبيّ: “أعمالهم أعمال إثم وفعل الظّلم في أيديهم. أرجلهم إلى الشّرّ تجري وتسرع إلى سفك الدّمّ الزّكيّ. أفكارهم أفكار إثم. في طرقهم اغتصاب وسحق. طريق السّلام لم يعرفوه وليس في مسالكهم عدل. جعلوا لأنفسهم سبلًا معوجّةً كلّ من يسير فيها لا يعرف سلامًا. من أجل ذلك ابتعد الحقّ عنّا ولم يدركنا العدل. ننتظر نورًا فإذا ظلام” (59: 6-9). الأنبياء من الله يستمدّون الكلمة وروح الله يحرّكهم.

يا أحبّة، الحقد والتّكبّر والغرور أسلحة الشّيطان، يغوي بها الإنسان للإيقاع به.

ألا يتألّم المسؤول من رؤية طوابير السّيّارات على المحطّات؟ أو من إذلال النّاس الواقفين على أبواب البنوك يستجدون حقوقهم؟ ألا يؤلمه مريض يفتّش عن الدّواء ولا يجده؟ هل يفكّر الزّعماء المتناحرون بالمريض والجائع والمتسوّل طعامه؟ ومن أجل من ولماذا مات من مات وشرّد الآلاف ممّن كان لهم سقف يأويهم؟

أمام تعاظم الأخطار الماليّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمنيّة لا بدّ من تنازلات من قبل المسؤولين. ألم يحن الوقت ليدركوا أنّ إلغاء الآخر لا يجدي، وأنّ المطلوب هو تعاون من أجل الإنقاذ، وتحصين البلد من تداعيات الصّراعات الخارجيّة بالتّضامن الدّاخليّ والتّفاهم من أجل مصلحة البلد؟

هنا لا بدّ من التّعبير عن حزننا وإدانتنا الشّديدة ورفضنا لما يجري في أرض فلسطين الحزينة من قضم وتهجير وعنف وسفك دماء. سكّان القدس وغزّة يقتلون. أهل الأرض يضطهدون من قبل المستوطنين المحتلّين. الأبرياء يدفعون ثمن الحقد والجشع والاستقواء. أين الرّحمة والعدل؟ دعاؤنا أن يقيم الرّبّ عدله في هذه الأرض المقدّسة، مهد المسيح، إله السّلام، فلسطين الجريحة، وأن يبسط سلامه فيها وفي منطقتنا والعالم أجمع لينعم شعوب الأرض بالهناء والسّلام.

دعوتنا في هذه الفترة الفصحيّة أن نتشجّع، ولا نختبئ خوفًا، بل فلنخرج إلى النّور، حتّى نرى النّور آتيًا إلينا. إن بقينا في العلّيّة كالتّلاميذ لن نشاهد القيامة أو نفتخر بكوننا شهودًا لها مثل حاملات الطّيب الجريئات. وكما يقول كاتب المزامير: “تشجّعوا ولتقو قلوبكم يا جميع المتوكّلين على الرّبّ” (مز 31: 24)، آمين.”

‫شاهد أيضًا‬

في خميس الأسرار…

تيلي لوميار – نورسات – مارلين صليبي هو خميس الأسرار المبارك الذي نتأمّل فيه كم…