يوليو 5, 2021

عوده: عسى اهتمام البابا يحرّك ضمائر الزّعماء والمسؤولين ويحثّهم على القيام بما يلزم

أكّد متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس أنّ “الحياة من دون المسيح ليست حقيقيّة، بل هي موت”, وذلك في عظته خلال قدّاس الأحد الّذي ترأّسه في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- بيروت، قال فيها:

“أحبّائي، سمعنا في إنجيل اليوم عن دعوة الرّسل بطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنّا ابني زبدى. هؤلاء الرّسل الأربعة، وباقي الرّسل، الّذين عيّدنا لهم الأسبوع الماضي، تركوا كلّ شيء وتبعوا المسيح.

إنّ الحياة من دون المسيح ليست حياةً حقيقيّةً، بل هي موتٌ. لذلك، مهما اغتنى العالم بالمظاهر، ليس له أدنى قيمة إلّا متى ابتغى وجه الإله– الإنسان، يسوع المسيح. هذا ما كان تلاميذ الرّبّ يعرفونه جيّدًا، لذلك هجروا كلّ شيء وتبعوه. لقد وجدهم المسيح منشغلين بعملهم، فأندراوس وبطرس كانا يرميان الشّبكة في البحر (مت 4: 18)، ويعقوب ويوحنّا يصلحان شباكهما مع أبيهما. أتت دعوة المسيح مقتضبةً تحمل الكثير من المعاني: “هلمّ ورائي فأجعلكما صيّاديّ النّاس” (مت 4: 19). أمّا تلبية التّلاميذ للدّعوة فكانت حارّةً وفوريّة، إذ ترك يعقوب ويوحنّا الشّباك والمركب وأباهما وتبعا الرّبّ. لو أردنا قياس قرار التّلاميذ بمقاييس الإنسان الجشع الّذي يعمل ليجمع المال فوق المال، وهو الحكيم في نظر العالم، لبدا قرارهم أرعن وغير منطقيّ. لقد تركوا عملهم في وسطه، وأتعابهم من دون نتيجة مطبّقين الآية: “من أحبّ أبًا أو أمًّا أكثر منّي فلا يستحقّني” (متّى 10: 37). فماذا كانت تعني لهم المهنة الجديدة الّتي عرضها عليهم المسيح، أيّ مهنة “صيّادي النّاس”؟

العقل البشريّ المحدود لا يستطيع أن يدرك عظمة دعوة الله ومدى عمقها ورحابتها. لكنّ صفة “صيّاديّ النّاس” تتّضح قليلًا عند قراءة مقاطع أخرى من الكتاب المقدّس. يقول الرّسول بولس: “نحن حمقى من أجل المسيح… نحن ضعفاء… صرنا شبه أقذار العالم” (1كو 4: 10-13). أمّا عبارة “هلمّ ورائي” فهي تساوي في المعنى قول “من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني” (مت 16: 24). المسيح، في دعوته للرّسل، فتح طريق المحبّة المصلوبة.

إنجيل متّى لا يذكر أيّ لقاء مسبق بين المسيح وتلاميذه، فكيف وافق أولئك الأربعة فورًا على دعوة معلّم مجهول، لاسيّما أنّه طلب منهم إنكار حياتهم السّابقة كلّها، والدّخول في مسيرة يجهلون نهايتها؟

لم يكن الرّبّ يسوع معلّمًا مجهولًا بالنّسبة إليهم، لأنّهم امتلكوا شهادة يوحنّا المعمدان عنه.

إذًا، نفهم أنّ قرار التّلاميذ باتّباع المسيح لم يكن متسرّعًا وعفويًّا، بل ثمرةً ناضجةً لإعداد يوحنّا المعمدان لهم ولخبرتهم الشّخصيّة. لقد عاش التّلاميذ مثل كلّ الشّعب اليهوديّ، منتظرين المسيّا، وبما أنّهم عرفوا كتب الأنبياء، فهموا كلمة الحقّ الصّادرة من الله، ووجدوا في المسيح “كلام الحياة الأبديّة”، لذا هجروا كلّ شيء وتبعوه. إزدروا بكلّ شيء أرضيّ مادّيّ، مبرهنين عن جرأة ونكران للذّات كدليل على التّحرّر من كلّ رباط أرضيّ. هكذا توافر لديهم ما يريده الله من محبّيه، وخصوصًا رسله، بمعنى أنّهم أتمّوا الشّروط المطلوبة ليصبحوا “صيّادي النّاس”، أيّ أدوات حيّةً تحقّق بها نعمة الله عمل الخلاص في العالم.

يا أحبّة، إنّ السّمكة، عندما تقع في الشّباك لتخرج من الماء، تتخبّط، وكثيرًا ما تجد قوّةً لتمزّق الشّبكة وتستعيد حرّيّتها داخل مياهها. تشعر وكأنّ الصّيّاد والشّباك أعداءٌ لها مهلكين. إلّا أنّ رموز الكتاب المقدّس تستخدم من أجل إظهار قصد الله الخلاصيّ. ليس هدف شباك الرّسل في بحر العالم إخراج النّاس من بيئتهم الطّبيعيّة من أجل تقييدهم أو قتلهم. إنّ كلمتهم تصطاد البشر من بحر الخبث ومياه الإلحاد والخطيئة المميتة، وتغلق عليهم في شبكة وصايا الله الخلاصيّة، الّتي يمكنهم أن يفلتوا منها إذا تغلّبت عليهم أناهم وصغر النّفس. ففي الحقيقة، كثيرًا ما يعارض البشر من يهبّ لمساعدتهم، ظانّين أنّهم يريدون التّسلّط عليهم. يتخبّطون كالسّمك خارج المياه، لأنّهم يرون في من يمدّون يد المساعدة أعداء لحرّيّتهم، فيبدأ الهجوم عليهم رفضًا للمساعدة. هذا هو نصيب الحياة الرّسوليّة، الكهنوتيّة، وصليب الأبوّة الرّوحيّة. الرّسل اصطادوا المسكونة من حياة عبادة الأوثان وقادوها إلى الموت الخلاصيّ عن الخطيئة. وهبوها حياة النّعمة واقتادوها من الموت إلى الحياة، لكنّهم واجهوا مشاكل كثيرةً بسبب صغر نفس الملحدين، والإخوة الكذبة، والفرّيسيّين الّذين لم يتقبّلوا كلامهم. أمّا الرّسل، فلم يتوقّفوا عن العمل في العالم والاصطياد فيه، حتّى الاستشهاد. هذا ما تفعله الكنيسة اليوم، إذ تضطهد كلّ يوم ويشنّع عليها من كلّ حدب وصوب، لكنّها لن تتوقّف عن السّير في طريق المحبّة المجروحة المصلوبة، شاهدةً على محبّة المسيح الّذي أحبّ حتّى موت الصّليب، ثمّ قام مقيمًا الجميع معه.

رسالة الكنيسة، منذ الرّسل، هي اقتياد النّاس إلى الحقّ والحياة، إلى المسيح. خلاصة عمل الكنيسة هو تقديس العالم. نحن ننعت الكنيسة بالرّسوليّة لأنّ فيها رعاةً ومبشّرين ومؤمنين تسلّموا من الرّسل ما تسلّمه الرّسل من الرّبّ، لكي يجعلوا حضور المسيح ملموسًا في مجتمعاتنا، وهم يشهدون بوداعتهم ومحبّتهم وتواضعهم وتضحياتهم أنّ الرّبّ ما زال حاضرًا بيننا، وحضوره يمنحنا العزاء والرّجاء والقوّة المحيية.

المسيحيّ الحقيقيّ رسولٌ للمسيح الّذي نادى بالمحبّة الّتي لا تعرف حدودًا، وبذل نفسه من أجل خلاص خليقته. لذلك لا يتوقّف المسيحيّ الحقيقيّ عند حدود مصلحته، ولا ينقاد بكبريائه، ولا يتصرّف مدفوعًا بأناه وانفعالاته. المسيحيّ الحقيقيّ نورٌ في هذا العالم المظلم، يشعّ محبّةً وتضحيةً واحترامًا لأخيه الإنسان، كائنًا من كان، يدافع عنه ويحفظ حرّيّته وكرامته ويصون حقّه. المسيحيّ الحقيقيّ ملحٌ في هذه الأرض، يعطي الحياة فيها طعمًا مميّزًا، بعيدًا عن الحقد والشّرّ والدّناءة والمصلحة. المسيحيّ الحقيقيّ خميرةٌ في مجتمعه، يفعل فعلها، أيّ يعمل على تكاثر الفضائل الّتي يتحلّى بها لتعمّ وتصبح القاعدة. هذا هو الدّور المسيحيّ الحقيقيّ في بناء الدّولة الرّائدة الّتي تتميّز بالحرّيّة والانفتاح والاستقلاليّة والمواطنة الصّادقة الحقيقيّة. هذه الدّولة تكون بدورها الخميرة بين مثيلاتها في هذا المشرق.

سمعنا الرّسول بولس يقول في رسالة اليوم: “ليس عند الله محاباةٌ للوجوه”. أهمّ ميزات المسيحيّ الصّدق وقول الحقيقة مهما غلا الثّمن. المسيحيّ لا ينقاد بمصلحته بل بقلبه المفعم بمحبّة المسيح، ولا يعتنق فكرةً أو عملاً لأنّ أكثريّة الشّعب يفعلون هكذا، بل يستلهم الوصايا الإلهيّة ويعمل بإيمانه، غير ناظر إلى الوراء بل شاخصًا إلى الرّبّ الإله مخلّصه. المسيحيّ الحقيقيّ لا يعمل على إلغاء الآخر من أجل تحقيق الأنا، ويعمل على تعميم هذا السّلوك. المسيحيّ الرّسول يعمل على إحقاق الحقّ، ونشر السّلام والمحبّة، وتحقيق العدالة بين البشر. وما أحوجنا في بلادي إلى المحبّة والعدالة والسّلام. ألا نطمح جميعنا إلى دولة تقوم على مفهوم سيادة الدّستور والقانون، وترتكز على قيم العدالة والحرّيّة والمساواة وتكافؤ الفرص، دولة حديثة تحقّق طموحات اللّبنانيّين وآمالهم، وتمنحهم حقوقهم بلا منّة من أحد، دولة يعمل فيها الزّعماء والمسؤولون من أجل خير الشّعب لا من أجل تحصين مواقعهم وتحقيق مصالحهم، متلطّين جميعهم برداء الدّين والطّائفة، ومتحصّنين بمقولة الدّفاع عن مصالح جماعاتهم.

كنّا نأمل أن يفتح هول الفاجعة الّتي أصابت بيروت، وهول الحالة الإنهياريّة الّتي يعيشها اللّبنانيّون، كوّة أمل وصفحةً جديدةً وبداية عمليّة إصلاح حقيقيّ تبعث بعض الأمل في النّفوس اليائسة، ولكن يبدو أنّ الحالة مستعصيةٌ على الحلّ. مع هذا، سوف نتابع، مع  جميع محبّي هذا البلد والمخلصين له، رفع الصّوت، علّنا نجد آذانًا صاغية.

هنا لا بدّ من شكر قداسة البابا فرنسيس على لفتته الأبويّة تجاه لبنان. عسى اهتمام قداسته، وصلاته من أجل خلاص لبنان، وكلماته المعبّرة، تحرّك ضمائر الزّعماء والمسؤولين، وتحثّهم على القيام بما يلزم وبأسرع وقت ممكن. ونردّد مع قداسته: “كفى استخدامًا للبنان لمصالح ومكاسب خارجيّة… لبنان الحبيب الّذي يشعّ حكمةً وثقافةً لا يمكن أن يترك رهينة الأقدار أو الّذين يسعون وراء مصالحهم الخاصّة”.

دعوتنا اليوم أن نتشبّث بشباك المسيح ورسله، لأنّها شباكٌ مخلّصة. دعوتنا ألّا ننجرّ وراء كلّ من يطلق العنان للسانه وألفاظه البشعة تجاه الكنيسة وقدّيسيها ورجالها ومن يسيء إلى الوطن والمواطنين. أثبتوا في الإيمان، وثقوا بكنيستكم المقدّسة، الّتي لديها هدفٌ واحدٌ، هو إيصالكم إلى الخلاص المنشود بيسوع المسيح، آمين.”

 

‫شاهد أيضًا‬

في خميس الأسرار…

تيلي لوميار – نورسات – مارلين صليبي هو خميس الأسرار المبارك الذي نتأمّل فيه كم…