ديسمبر 27, 2021

عوده في عظة الميلاد: بلدنا عالق بين مجلس وزراء معلّق الأعمال وتحقيق يحاول النّافذون تعطيله للحيلولة دون كشف الحقيقة

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة قدّاس الميلاد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس. بعد قراءة الإنجيل المقدّس ألقى عظة قال فيها:

“المجد لله في العلى، وعلى الأرض السّلام، وفي النّاس المسرّة.

أيّها الأحبّة،

إنّ عيدنا اليوم كئيب حزين، لأنّ الوضع الصّعب الّذي نعيشه حال دون شعور معظم اللّبنانيّين بفرحة العيد ومعناه. بلدنا عالق بين مجلس وزراء معلّق الأعمال، وتحقيق يحاول النّافذون تعطيله للحيلولة دون كشف الحقيقة الّتي يطالب بها ذوي ضحايا تفجير المرفأ، وهذا حقّ لهم وواجب على  الدّولة. الشّوارع قد هجرتها الزّينة والأضواء، والبيوت فرغت من الطّعام والشّراب. أطفال كثر ناموا على جوع ودمعة، وآباء وأمّهات كثر لسعتهم الحرقة على العائلة وعلى الوطن. ولا يمكننا ألّا نتذكّر الضّحايا والمشرّدين واليتامى والمقهورين والمظلومين والمهجّرين رغمًا عنهم، والمرضى والمسجونين وغيرهم ممّن قست عليهم يد الظّلم وطالتهم يد الغدر، ولم يعرفوا طعم الفرح والتّعييد بذكرى تجسّد الإله وصيرورته إنسانًا لكي يصير الإنسان إلهًا.  

إنّ التّجسّد فعل حقيقيّ، حصل في زمان ومكان حقيقيّين، وقد غيّر وجه التّاريخ وحوّله، كما غيّر الإنسان وحوّل مسيرته. فعوض أن يكون مساره أفقيًّا، نحو لا نهاية، أصبح عموديًّا نحو الأعلى، نحو الكمال، نحو الله. التاريخ أيضًا اكتسب بعدًا جديدًا إذ لم يعد مع المسيح حروبًا وغزوات ونزاعات وسياسات مضلّلة، وظلمًا وقهرًا وقسوة، بل أصبح جهادًا نحو الأسمى، جهادًا ضدّ الشّرّ، سلاحه المحبّة والوداعة والتّسامح. الإنسان أصبح قيمةً إلهيّةً لأنّ الإله اتّحد به وأحبّه وافتداه بدمه. هذه هي رسالة المسيح. إنّها ليست شعارات ومحاضرات. إنّها حياة تستنير بنورها الشّعوب والحضارات إن هي أرادت أن تتبع حقًّا من قال: “أنا هو الطّريق والحقّ والحياة” (يو 14: 6).  

لا حياة مسيحيّةً بعيدةً عن المبادئ المسيحيّة. المسيحيّ الحقيقيّ يجب أن يكون صورةً للمسيح في حياته. الرّبّ يسوع، بتجسّده، أفرغ ذاته آخذًا صورة عبد، صائرًا مثلنا نحن البشر، ليفتح لنا طريق التّألّه. كيف؟ بصيرورتنا أنوارًا وملحًا وخميرًا صالحًا، بممارستنا المحبّة بلا حساب، والمسامحة والغفران والعدل، وبنشرنا السّلام بين البشر.  

مسيحنا التصق بنا نحن الخطأة، عانى كلّ ما نعانيه ما عدا الخطيئة، ورسم لنا طريق الخلاص. ظلم مثلنا. عانى الفقر والرّفض والإهانة والصّلب، ومات، لكنّه قام منتصرًا على كلّ خطيئة وكلّ ظلم وكلّ شرّ. هذا الأمر يعزّي من أصابهم تفجير العاصمة وحطّم قلوبهم ومساكنهم، ومن أصابهم ظلم وقهر وفقر وتشرّد. فلا تخافوا. لا تدعوا اليأس يدخل قلوبكم لأنّ لكلّ ليل نهاية، ولكلّ ظالم نهاية. مسيحنا قال: “في العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا، أنا قد غلبت العالم”.  

ما نعيشه اليوم صعب جدًّا، قد يفوق طاقتنا على الاحتمال، لكنّ تعزيتنا أنّ الله أرسل لنا ابنه خلاصًا لنا، وكما سمعنا في الرّسالة: “لست بعد عبدًا بل أنت ابن. وإذا كنت ابنًا فأنت وارث لله بيسوع المسيح”. وبما أنّ “يسوع المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد” كما يقول بولس الرّسول (عبرانيّين 13: 8)، فكما تجسّد ليخلّص الإنسان، سوف يبقى ساهرًا على الإنسان ومخلّصًا دائمًا له.

يا أحبّة، المسيح يولد في قلوب النّاس، والعثور على مغارة القلب، حيث ولد المسيح، هو عملنا الرّئيسيّ الّذي يعطي معنًى لحياتنا، أو هو هدف حياتنا الحقيقيّ، الّذي هو لقاء المسيح وارتباطنا به. إنّ مسيرة المجوس الّتي حدّثنا عنها إنجيل اليوم تصوّر مسيرة حياة الإنسان الصّحيحة بدقّة كبيرة: إنّها الانتقال من الوثنيّة إلى الإيمان الحقيقيّ. قراءة إنجيل اليوم مميّزة جدًّا، إذ إنّها تتحدّث بجملة واحدة فقط عن ميلاد المسيح، ثمّ تصف مسيرة المجوس الّذين أتوا من المشرق يسألون عن “المولود ملك اليهود” ليسجدوا له. ربّما أراد كاتب الإنجيل أن يسلّط الضّوء على موضوع البحث عن المسيح ولقائه شخصيًّا.

طبعًا، نلاحظ أنّ هيرودس كان يبحث أيضًا عن المسيح. لقد سأل رؤساء الكهنة والكتبة “أين يولد المسيح؟” لا ليسجد له، كما فعل المجوس، ولا لأيّ علّة ممّا تعلّل به أمامهم، بل لكي يقتله. إنّه يشبه كثيرًا أولئك الّذين يفتّشون الكتب، ليس ليعلموا كيف يقتربون من المسيح ومن عبادته الحقّة، أو كيف يستطيعون أن يقدّموا له كيانهم كهديّة، إنّما ليدعموا آراءهم، أيّ قوّة ضلالهم، وليغتالوا الإيمان في ضمائر النّاس.

يا أحبّة، الله لا يترك أحدًا، يفتقدنا بشكل خاصّ حتّى في عصياننا وضلالنا، ويكلّمنا باللّغة الّتي نفهمها. هذا ما فعله مع المجوس حكماء المشرق، لأنّهم كانوا يعبدون النّجوم. إرتضى أن يتعلّموا السّجود للإله الحقيقيّ عن طريق نجم، أيّ كلّمهم بما يرمز إلى ضلالهم ليحرّرهم منه. لا يهمّنا ما كانت عليه طبيعة النّجم الفائق الضّياء، بقدر ما تهمّنا فضائل المجوس الّتي استبانت من مسيرتهم العجائبيّة. يشبه المجوس إبراهيم أبا الآباء، الّذي أوصاه الله بأن يخرج من وطنه وعشيرته، وينطلق إلى البلد الّذي سيريه إيّاه. لم يكن إبراهيم يعرف أين سينتهي به الأمر، لكنّه وثق بالله فقط. المجوس أيضًا لم يعرفوا إلى أين سيصلون، واعتمدوا على سير النّجم وحده. شجاعة إبراهيم تشدّدت بسبب صوت الله الّذي دعاه، لأنّه كان على صلة شخصيّة به، وقبل مواعيد كثيرةً منه.

أمّا المجوس فأرادوا، برغبة واحدة، ومن غير أن يسمعوا صوت الله، أن يتعرّفوا بالملك المولود حديثًا ويسجدوا له، مكتفين بإرشاد النّجم. لقد خرجوا من أرضهم وعشيرتهم، وهجروا كلّ شيء وبدأوا مسيرتهم السّرّيّة. إنّ استعداد المجوس وشجاعتهم هما مقياس المسيرة الرّوحيّة. الجميع يتلقّون دعوات سماويّة، ويحاول الله بطرق متنوّعة أن يخرج النّاس من عيشهم الوثنيّ، من كسل حياة متراخية تستعبدهم لهذا العالم. يشعل أمامهم نارًا تهديهم، منتظرًا منهم استعداد المجوس وشجاعتهم. كثيرون رأوا النّجم في زمن ميلاد يسوع، لكنّ ثلاثةً فقط تبعوه. هكذا، الجميع يتلقّون دعوات من الله، وعليهم ألّا يكونوا من الّذين يهملونها.

عندما وصل المجوس إلى أورشليم أضاعوا النّجم. هناك امتحن ثباتهم وإيمانهم. طلبوا أن يعلموا أين ملك اليهود المولود، فجعل السّؤال المدينة تضطرب، وأقلق هيرودس بشكل مخيف. أمّا المجوس فلم يخافوا. أذاعوا دافع مسيرتهم قائلين: “إنّنا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له”، وعلموا من رؤساء الكهنة والكتبة، بواسطة هيرودس، أنّهم كانوا ينتظرون ولادة ملك إسرائيل في بيت لحم. مع هذا الخبر، خرجوا من المدينة ورأوا أمامهم النّجم مجدّدًا، فاعتراهم فرح عظيم، وأوصلهم النّجم إلى حيث كانت والدة الإله مع طفلها يسوع.  

أورشليم هي رمز للعالم، وهيرودس رمز لسلطة هذا العالم. عندما يشتبك الإنسان، خلال مسيرته الرّوحيّة، بذهنيّة العالم الكثيرة الضّجيج، يفقد نوره الهادي ويهجره إلهام النّعمة، فتجرّب حرّيّته. عندئذ، على الإنسان أن يسأل رؤساء الكهنة والكتبة، أيّ رعاة الكنيسة ومعلّميها، أين يولد المسيح. طبعًا، سيحتار العالم من هذا التّفتيش، والتّفكير البشريّ سيشنّ حربه، إذ قد يبدي أحيانًا أنّه يوافق نوايانا، لكنّه يرمي إلى خدمة مصلحته، كما فعل هيرودس مع المجوس.

يقول لنا النّصّ الإنجيليّ: “دعا هيرودس المجوس سرًّا وتحقّق منهم زمان النّجم الّذي ظهر”. دعاهم سرًّا ليستعلم قبل حياكة مؤامرته، والمؤامرات ما زالت تحاك في السّرّ، في عتمة الغرف المظلمة، خوفًا من النّور الّذي يفضحها. من لا يخشى شيئًا لا يعمل في السّرّ بل تكون أفعاله كلّها في وضح النّهار. لذا لا بدّ من الإشارة هنا إلى ضرورة شعور المسؤول بأهمّيّة مسؤوليّته، والقيام بها علنًا وبوضوح، وحسب ما يمليه الدّستور،  خاصّةً في هذه الأيّام الصّعبة الّتي تتطلّب من الجميع التّكاتف وبذل أقصى الجهود، بعيدًا من المصلحة والارتباطات.

يا أحبّة، على المسيحيّ أن يقتني ثبات المجوس وإيمانهم، ويستعلم ممّا تقوله الكتب ومن الرّعاة والمعلّمين الّذين يساعدونه ليخرج من أورشليم، أيّ من ذهنيّة العالم، ويعود إلى حرارة النّفس المفقودة، إلى الإلهام من أجل حياة صحيحة محورها المسيح. إنسان اليوم مدعوّ للسّجود مجدّدًا لميلاد المسيح، فإن كان سجوده صادقًا، عليه ألّا ينسى أنّ عليه الرّجوع إلى حياته اليوميّة “من طريق أخرى”، ساخرًا من هيرودس، أيّ من طريق الخطيئة الّتي تريد اغتيال المسيح في داخله.  

المسيح ولد تعزيةً للعالم، ليصالح البشر مع الله.

رسالة الميلاد واضحة: المجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام وفي النّاس المسرّة. من لا يمجّد الله لا يعرف المسيح ولا يمسّه الخبر السّارّ: ميلاد ملك المحبّة والسّلام. ترى هل يعرف السّلام من يمعنون في الظّلم والقهر؟ ومن يمارسون الكذب والمخادعة المرتبطة بالمصلحة؟ هل يعرف الله من يتحكّمون بمصائر البشر ويتآمرون على الوطن؟ ومن لا يحكمون بالعدل ولا يطبّقون المساواة بين النّاس؟ المسيح تجسّد ليقول لنا إنّه مهتمّ بمخلوقاته، معنيّ بالإنسان ومصيره، وبالكون وأبعاده. وكنيسته ما زالت، منذ نشأتها حتّى اليوم، معنيّة بأمور الإنسان، تحوّله عن ضلاله وترشده إلى الحقّ، مستنيرةً بتعاليم المسيح الإله الإنسان الّذي من ملئه نأخذ كلّ شيء ونعرف كلّ شيء.  

في هذه المواسم المباركة، دعائي إلى الرّبّ الّذي تجسّد ليعلّمنا المحبّة والتّواضع والتّضحية، أن يمنحنا القوّة لنحتذي به، والشّجاعة لنبشّر بتعاليمه، والصّبر على الضّيقات، والرّجاء بغد أفضل.

ألا جعل قلوبنا مغاور لاستقباله، ونفوسنا عطشى للارتواء من ينابيع مائه الحيّ. نفوسنا الحزينة لا تغذّيها إلّا محبّته، وبلادنا البائسة لن تعيد إليها الحياة إلّا نعمته وإيماننا به. فلنؤمن به ونتمسّك بنعمته الّتي بها نغلب الصّعاب، آمين.” 

‫شاهد أيضًا‬

أبو كسم تعليقاً على فيديو كاهن مزرعة يشوع: السلاح الحقيقي للكنيسة هو الصلاة

أبو كسم تعليقاً على فيديو كاهن مزرعة يشوع: السلاح الحقيقي للكنيسة هو الصلاة اوضح رئيس المر…