يناير 30, 2023

عوده: لعدم ترك السّياسة تقضي على القضاء

المطران عوده

تيلي لوميار/ نورسات

ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة جاء فيها: “أحبّائي، بعدما تعرّفنا الأسبوع الماضي على زكّا، رئيس العشّارين الّذي كان شعبه يكرهه، لكنّ الرّبّ أنعم عليه بالمغفرة والمكوث تحت سقف بيته، ها نحن اليوم أمام امرأة وثنيّة جاءت تسترحم يسوع من أجل ابنتها. هذان المثالان يعدّان المؤمنين لمرحلة مقبلة تشتدّ فيها التّهيئة للدّخول إلى معترك الصّوم الكبير المقدّس، وربح المعركة تجاه الشّرّير، وصولًا إلى الاحتفال العظيم بالقيامة البهيّة.



تعلّمنا من زكّا العشّار كيف نتخطّى كلّ الصّعوبات الّتي يضعها الشّرّير في طريقنا كي لا نعاين المسيح المخلّص، ولا نتذوّق حلاوته، فنتوب ونعود إليه ونخلص. اليوم، نحن أمام امرأة، ليست يهوديّةً مثل زكّا، بل هي وثنيّة كنعانيّة. التّاريخ البشريّ يشهد للعداوة الشّديدة بين اليهود والكنعانيّين، حتّى إنّ اليهود كانوا يتمنّون لو يباد الشّعب الكنعانيّ بأكمله، رغم أنّه جاء بحضارة عميقة، ومعه جاءت الزّراعة وغيرها. لم ينظر اليهود إلى الكنعانيّين من ناحية الغنى الثّقافيّ أو الحضاريّ، ولا نظروا إلى ما منحهم الله من العطايا الّتي يمكن لليهود أن يغتنوا منها، بل رأوهم شعبًا يهدّد وجودهم الدّينيّ ويجب محوهم عن الأرض، فقط لأنّهم لم يعرفوا الإله الحقيقيّ بعد. لكنّ شعبًا يدّعي معرفة الله، كيف يفكّر بالشّرّ في قلبه؟

فيما كان اليهود، المتمثّلون بتلاميذ المسيح، يقولون: “إصرفها، فإنّها تصيح في إثرنا”، مع أنّها كانت تعلن إيمانًا لم يجده المسيح في “شعب الله”، كانت الكنعانيّة تصرخ نحو الرّبّ يسوع قائلةً: “إرحمني، يا ربّ، يا ابن داود فإنّ ابنتي بها شيطان يعذّبها جدًّا”. هذه الغريبة عن اليهوديّة طلبت الرّحمة من معلّم يهوديّ، واعترفت أنّه الرّبّ، ابن داود، أيّ الملك الممسوح من ذرّيّة الملك داود، الآتي ليخلّص شعبه، ولهذا تجرّأت، أمام شعب لا يزال ينتظر مجيء مسيح الرّبّ، على أن تطلب منه شفاء ابنتها المعذّبة من الشّيطان. ربّما فضح صراخها الإيمانيّ التّلاميذ الّذين كانوا مع المسيح كلّ حين، مثل سائر الشّعب اليهوديّ، ولكنّهم لم يعرفوه حتّى السّاعة، لذلك أرادوا إسكاتها وطلبوا من الرّبّ أن يصرفها.



قال لها يسوع: “لم أرسل إلّا إلى الخراف الضّالّة من بيت إسرائيل”. قد يتّهم البعض الرّب يسوع بالعنصريّة، وبحصر الخلاص بالشّعب اليهوديّ. هؤلاء يخطئون لأنّ المسيح بقوله هذا إنّما يعلن ما يفكّر به تلاميذه، وما حفظوه من النّاموس، ويعتبر هذا الفكر خطيئةً يجب أن تظهر إلى النّور حتّى يتمّ الشّفاء منها، لأنّ “الكلّ إذا توبّخ يظهر بالنّور، لأنّ كلّ ما أظهر هو نور” (أف 5: 13). أراد المسيح أن يعلّمهم نبذ الأفكار الشّرّيرة عن سائر الأمم، وأنّه غير محصور بالشّعب اليهوديّ، لأنّ الله خلق الجميع لا اليهود وحدهم، على صورته ومثاله و”يريد أنّ كلّ النّاس يخلصون وإلى معرفة الحقّ يقبلون” (1تي 2: 4).

لقد ألحّت الكنعانيّة على طلب الخلاص، كما فعل زكّا. قالت للرّبّ يسوع: “أغثني يا ربّ”. لم تهتمّ لرفضها من قبل اليهود والتّلاميذ الّذين كان عليهم أن يقبلوا الجميع. قال لها الرّبّ يسوع قولًا قد يجده قرّاء الإنجيل صادمًا: “ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويلقى للكلاب”، لكن متى عرف المعنى الكامن وراء هذه العبارة ينتفي كلّ عجب. هنا أيضًا، أظهر الرّبّ علانيّةً مكنونات قلوب اليهود. فبعدما أرادوا حصر يسوع بشعبهم فقط، ربّما افتكروا في أنفسهم أنّ مرضاهم وخرافهم الضّالّة” هم أولى بعجائب الرّبّ، فلماذا يعطى خبز البنين للغرباء؟! إنّ كلمة “الكلاب” ليست إهانةً كما يعتقد الكثيرون، إنّما هي موروث ثقافيّ لدى العبرانيّين للدّلالة على من هم خارج الإيمان. لقد أراد المسيح أن يظهر للجميع أنّه جاء إلى كلّ الأجناس البشريّة لأنّ “للرّبّ الأرض وملؤها، المسكونة وكلّ السّاكنين فيها” (مز 24: 1). إذًا، لم يقصد الرّبّ إهانة الكنعانيّة، بل استخدم معتقدًا شعبيًّا يهوديًّا يظهر أنّ اليهود يستعلون على سواهم من الأمم، والدّليل على ذلك أنّ المرأة كانت تعرف هذا القول وتتمّته إذ أجابت: “نعم، يا ربّ، فإنّ الكلاب أيضًا تأكل من الفتات الّذي يسقط من موائد أربابها”. مع أنّها علمت موقف اليهود من شعبها، ثابرت على إيمانها وعرفت المسيح حقًّا، هو الّذي لم يعرفه أبناء شعبه. ولكي يلقّن اليهود وتلاميذه درسًا في المحبّة الكاملة الّتي لا تفرّق بين يهوديّ وأمميّ، قال لها يسوع: “يا امرأة، عظيم إيمانك، فليكن لك كما أردت”.



يا أحبّة، ألا يفعل اللّبنانيّون في غالبيّة الأحيان ما فعله اليهود مع الكنعانيّين؟ للأسف، يقع البعض في خطيئة إدانة الآخر ومحاولة إقصائه.  المسيحيّ فطر على المحبّة، لا على الدّينونة، إذ إنّ الله هو الدّيّان العادل، والمانح الخلاص لجنس البشر. لذلك من واجب المسيحيّ أن يتشبّث بالمسيح ويسعى مثل زكّا والكنعانيّة إلى التّوبة وإعلان الإيمان بالمخلّص، وأن يتعلّم منهما التّواضع الّذي سنعاينه الأسبوع المقبل مع العشّار، حتّى يكون مستحقًّا لفرح القيامة ويظهر أهلًا للعرس السّماويّ، وإلّا فإنّ الصّوم الآتي لن ينفع قلبًا متحجّرًا مغلقًا على الإنسان الآخر. المسيح تجسّد ليخلّص الجميع، ولن ينال الخلاص إلّا من تشبّث به مثل زكّا والكنعانيّة.

يا أحبّة، خلاص بلدنا يكون على أيدي أبنائه إن هم نبذوا الحقد والتّعالي والإستقواء والإدانة والإقصاء. بلدنا يحتضر. لا رأس للدّولة، والحكومة مستقيلة، والمجلس النّيابيّ مشرذم ومشلول، لم يتوصل بعد إحدى عشرة جلسةً إلى انتخاب رئيس، يكون الخطوة الأولى في مسيرة انتظام عمل المؤسسات. والمؤسف أنّ الانهيار في لبنان لم يقتصر على النّواحي السّياسيّة والماليّة والاقتصاديّة  والاجتماعيّة بل تسرّب إلى القضاء، وما شهدناه من تخبّط وانقسام وصراعات وفوضى ينذر بتهاوي الملجأ الأمين لكلّ مستضعف ومقهور ومظلوم، والحصن المنيع الّذي يحمي الدّولة والمواطنين ويرسي العدالة على أساس الحقّ.

العدالة أساس الملك، وهي لا تجزّأ وليست انتقائيّةً أو كيديّة، وتمقت ازدواجيّة المعايير. لقد سمّيت بيروت منذ القديم أمّ الشّرائع لتمسّكها بالقانون، ومدرسة الحقوق الرّومانيّة فيها لم تكن علامتها الوحيدة المضيئة إذ عرفت على مرّ الأزمنة رجال قانون لامعين، لم يدينوا إلّا بالحقّ وما طأطأوا الرّأس إلّا أمام الله والحقيقة. لكنّ الحقيقة ضاعت في جريمة تفجير المرفأ وقسم من بيروت وأبنائها، أو هناك من شاء تضييعها لأسباب نجهلها ويعرفها المعطّلون. ما نعرفه وما هو منطقيّ أنّ على كلّ مطلوب الذّهاب إلى التّحقيق حفظًا لكرامته وإثباتًا لبراءته. أمّا التّعنّت وعدم المثول أمام المحقّق فيشكّلان إدانةً واضحةً لمن يتمسّك بهما. عندما يخضع الجميع للقانون ويحترمونه تستقيم الأمور، وعندما يغيب العدل تعمّ الفوضى، ويصبح صاحب الحقّ مقهورًا أو مدانًا، والمجرم المطلوب للعدالة متفرّجًا مستقويًا بمن يحميه. لقد أصبحت المواجهة بين القضاة، عوض أن تكون بين القضاء والمذنبين الّذين فجّروا العاصمة وها هم يفجّرون القضاء. هذا الوضع لم نشهد له مثيلاً في تاريخ لبنان، ولم يعهده قصر العدل. وعوض التّمسّك باستقلاليّة القضاء دخلت السّياسة والطّائفيّة إلى القضاء. لقد أدّت السّياسة المعتمدة عندنا إلى تحلّل الدّولة وانهيارها، لذلك على ذوي الضّمائر الحيّة السّاهرة على البلد عدم ترك السّياسة تقضي على القضاء. لذا نتوقّع من أولي الأمر مواقف على قدر جسامة الوضع، لا تصاريح فارغةً لم تعد تجدي.

الإستهتار بأرواح النّاس وحياتهم حرام، ومن حقّ كلّ متضرّر معرفة الحقيقة، ومهما كبر غلوّ السّلطة لا بدّ للحقيقة أن تظهر.  

نحن نعيش في أدغال سياسيّة واقتصاديّة وقضائيّة بسبب عدم كفاءة السّياسيّين وقلّة مسؤوليّتهم. متى ينقضي هذا الكابوس عن حياة اللّبنانيّين؟  

بيروت الحزينة على أبنائها تنتظر استكمال التّحقيق وجلاء الحقيقة. ولبنان كلّه حزين على وضعه وينتظر انجلاء اللّيل القاتم وبزوغ فجر النّهوض. عسى ألّا يكون الانتظار طويلاً.”

‫شاهد أيضًا‬

في خميس الأسرار…

تيلي لوميار – نورسات – مارلين صليبي هو خميس الأسرار المبارك الذي نتأمّل فيه كم…