فبراير 20, 2023

عوده للمسؤولين: أنتم أمام فرصة للتّكفير عن خطاياكم تجاه شعبكم، فانكبّوا على العمل!

عوده في عظة الشّعانين: هل يملك شعبنا إرادة التّغيير ويسعى من أجل التّغيير أم أنّه سينكفئ ويختار القديم الذي اعتاده؟

تيلي لوميار/ نورسات

ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده، صباح الأحد، خدمة القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس ألقى عوده عظة جاء فيها: “أحبّائي، يسمّى هذا الأحد أحد مرفع اللّحم لأنّنا نرفع اللّحم عن موائدنا ابتداءً من يوم غد، استعدادًا للصّوم الأربعينيّ المقدّس.  

في هذا اليوم الّذي يسمّى أيضًا أحد الدّينونة نقرأ مقطعًا إنجيليًّا يخبرنا عمّا سيؤول بنا الحال في اليوم الأخير، عندما يجلس الرّبّ على كرسيّ مجده ليدين الجميع، كلّاًّ بحسب أعماله.  

لقد علّمتنا الكنيسة في الأحّدين الماضيين التّواضع والتّوبة، وهما فضيلتان تتعلّقان بالذّات، فيما نتعلّم هذا الأحد الانطلاق نحو الآخر الّذي هو سبيلنا إلى الملكوت.

نفهم جليًّا من إنجيل اليوم أنّ دينونتنا ستكون مبنيّةً على أسس وصيّة المحبّة الّتي أوصانا بها الرّبّ يسوع: “وصيّةً جديدةً أنا أعطيكم: أن تحبّوا بعضكم بعضًا. كما أحببتكم أنا، تحبّون أنتم أيضًا بعضكم بعضًا” (يو 13: 34). هذه الوصيّة تترجم محبّتنا لله عمليًّا، عبر تطبيقها مع كلّ إنسان، عدوًّا كان أو صديقًا. يقول الرّسول يوحنّا: “إن قال أحد: إنّي أحبّ الله، وأبغض أخاه، فهو كاذب. لأنّ من لا يحبّ أخاه الّذي أبصره، كيف يقدر أن يحبّ الله الّذي لم يبصره؟” (1يو 4: 20). دينونتنا لن تكون على أساس محبّتنا لله، بل على أساس تطبيق تلك المحبّة بأفعال محسوسة نابعة من حفظنا للنّاموس والوصايا الإلهيّة، وكترجمة فعليّة لمكنونات قلوبنا. فالمسيح كان يلمّح دومًا في أحاديثه مع تلاميذه أو مع الّذين يتبعونه إلى أنّ قبولهم في الملكوت السّماويّ متوقّف على المحبّة الّتي يظهرونها تجاه إخوتهم، حتّى ولو كان ذلك عن طريق أعمال بسيطة. يقول الرّبّ مثلًا: “من سقى أحد هؤلاء الصّغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ، فالحقّ أقول لكم: إنّه لا يضيع أجره” (مت 10: 42).  

يقول القدّيس أفرام السّريانيّ: “إنّ محبّة الرّبّ تنقذنا من الموت، ومحبّة الإنسان تبعد عنّا الخطيئة، لأنّه ما من أحد يخطئ بحقّ من يحبّه”. إذًا، من يحوي محبّة الله في قلبه هو بلا أدنى شكّ محبّ لكلّ إنسان مخلوق على صورة الله ومثاله، أيّ لكلّ البشر، وسيظهر في يوم الدّينونة أنّه كان محبًّا لله خالقه، لأنّه أحبّ الجميع. هذا ما يؤكّده لنا الرّبّ في إنجيل اليوم بقوله: “الحقّ أقول لكم: بما أنّكم فعلتم ذلك بأحد إخوتي هؤلاء الصّغار فبي فعلتموه”.

لا يشكّل إنجيل اليوم مصدر رعب لأحد، لأنّ الله خلقنا أحرارًا، وإذا أرعبنا يكون بذلك يعمل عكس حرّيّتنا. كلّ ما قاله الرّبّ يسوع أو فعله إنّما قام به بهدف تعليمنا وخلاص نفوسنا. اليوم نجده يحذّرنا من نتيجة أعمالنا، وأنّ أمامنا طريقين نختار أحدهما بحرّيّتنا الشّخصيّة. قال أيضًا: “كلّ ما أردتم أن يفعل النّاس بكم، إفعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم، لأنّ هذا هو النّاموس والأنبياء” (مت 7: 12).  

نحن نعرف أنّ الله محبّة، وأنّه فعل كلّ شيء مدفوعًا بمحبّته للبشر من أجل خلاص الجميع، حتّى إنّه بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك منّا أحد. وبما أنّ الله المحبّة قد خلقنا على صورته ومثاله، فهذا يعني أنّنا مفطورون على المحبّة، وأنّ كلّ ما نفعله عكس تلك المحبّة إنّما يدلّ على رفضنا لله وصورته، وهذه هي دينونتنا. واجب المسيحيّ الوحيد هو المحبّة، كما يعلّمنا الرّسول بولس قائلًا: “لا تكونوا مديونين لأحد بشيء إلّا بأن يحبّ بعضكم بعضًا، لأنّ من أحبّ غيره فقد أكمل النّاموس. لأنّ: لا تزن، لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزّور، لا تشته، وإن كانت وصيّة أخرى، فهي مجموعة في هذه الكلمة: أن تحبّ قريبك كنفسك. المحبّة لا تصنع شرًّا للقريب، فالمحبّة هي تكميل النّاموس… قد تناهى اللّيل واقترب النّهار، فلنخلع أعمال الظّلمة ونلبس أسلحة النّور” (رو 13: 8-12).

تضع كنيستنا هذا النّصّ أمامنا اليوم، قبل دخول معترك الصّيام، لكي تعلّمنا بلسان الرّبّ أن نحبّ، لأنّ المحبّة تنجّينا من “ليل” الموت، وتوصلنا إلى “نهار” القيامة البهيّ.

إنّ من حقّ كلّ إنسان أن يعامل على أنّه كائن مخلوق للحبّ لا للاستغلال. لذلك، إنّ الجوع والعطش والعري والتّغرّب والمرض لا تكون بسبب الأمور المادّيّة فقط، بل بسبب غياب المحبّة الواجب تقديمها مجّانًا إلى كلّ شخص على هذه الأرض الفانية. هنا ننوّه بما رأيناه في الأيّام القليلة الماضية، حيث أنّ بلدانًا بينها عداوات تاريخيّة متجذّرة قامت بفتح حدودها بمعابر إنسانيّة مفعمة بالمحبّة الإلهيّة، من أجل إغاثة الإخوة المنكوبين جرّاء الزّلزال المدمّر. هذا مثال حيّ عن المحبّة الّتي يشاؤنا الرّبّ أن نظهرها تجاه الآخر، تلك المحبّة الّتي “لا تسقط أبدًا” (1كو 13: 8).  

متديّنون كثيرون يظنّون أنّ الدّين هو ترداد صلوات وإضاءة شموع وحرق بخور، فيتعلّقون بالشّكليّات ويهملون الأهمّ. الشّركة مع الآخر هي جوهر الدّين، وغيابها يعني غياب الدّين بأكمله.  

إنّنا قادمون نحو صوم ننقطع فيه عن الطّعام، ليس من أجل تخفيف الوزن والاهتمام بصحّة الجسد، بل من أجل توفير الأموال الّتي نصرفها على ملذّات البطن بغية استخدامها في إشباع أخينا الجائع، وإرواء عطشه، وتدفئة جسده العريان، وتأمين حاجات المريض والوحيد والمنبوذ والمشرّد. هنا تكمن دينونتنا، لا في تعداد السّجدات والصّلوات والتّسابيح، على أهمّيّتها.

يا أحبّة، إنّ دينونة البشر الّذين لا يعرفون المحبّة كبيرة، فكيف إذا كانوا من المسؤولين عن شعب بأكمله؟ سنوات مرّت والأوضاع السّياسيّة والاقتصاديّة تنهار، وعملتنا الوطنيّة تتدهور إلى حضيض غير مسبوق، ولم نشهد جهدًا من أجل إنقاذ الشّعب من هذا المصير. هل انتفى الشّعور الوطنيّ، أم أنّ غياب الشّعور الإنسانيّ يفقد الإنسان إنسانيّته فيتحوّل إلى وحش بشريّ لا يفكّر إلّا بأناه ولو على حساب الآخر المريض والجائع والموجوع؟ ألا يخجل كلّ من يسمّي نفسه مسؤولاً أو زعيمًا من تحويل الشّعب اللّبنانيّ الحيّ والمبدع إلى شعب خائف وجائع ومتسوّل وطالب للهجرة؟ ألا تخجلون من عنادكم ومن تشبّثكم بمواقفكم وتقديم مصالحكم ومصالح من ترتبطون بهم على مصلحة بلدكم وشعبكم؟ كيف تعيشون مع ثقل الآثام الّتي ترتكبونها بحقّ وطنكم؟ ألا يحرّك الوضع الّذي أوصلتم البلد إليه ضمائركم؟ وهل القائد قائد لجماعته أم على مستوى الوطن؟ وهل المسؤول مسؤول عن طائفته أم عن الوطن؟  

متى نستردّ دولتنا من براثن الأنانيّين وأصحاب المصالح وأرباب الاستبداد؟ ألم يحن وقت لجم الشّهوات المتسلّطة على النّفوس، ولجم الدّولار الجامح، ولجم الخلافات التّافهة أمام انهيار دولة ومجتمع؟ هل يبني العناد وطنًا؟ وهل الرّئيس الواجب انتخابه رئيس لفئة أم أنّه رئيس للجمهوريّة، يخصّ جميع اللّبنانيّين، ومن واجب جميع النّوّاب التّحرّك سريعًا من أجل تسهيل انتخابه وبدء مسيرة الإصلاح والإنقاذ؟

دينونة المسؤولين عظيمة لأنّ الشّعب جاع فلم يطعموه، ولم يكسوا عريه ولم يؤمّنوا له الدّواء، وما زالوا يمعنون في التّنكيل به. الويل لكلّ من فعل هذا بإخوة يسوع الصّغار. إلّا أنّ زمان التّوبة لم يولّ بعد. أنتم أمام فرصة للتّكفير عن خطاياكم تجاه شعبكم، فانكبّوا على العمل، وانتخبوا رئيسًا يقود السّفينة إلى ميناء النّجاة، وسهّلوا تأليف حكومة أصيلة تستطيع إدارة مؤسّسات الدّولة وإخراجها من أزماتها.

نحن مدعوّون اليوم إلى تقديم المحبّة المجّانيّة للجميع دون استثناء، لأنّ الرّبّ خلقنا جميعًا على صورته ومثاله، وشمسه تشرق على الأشرار والصّالحين، فأحبّوا لكي ترثوا ملكوت الله، آمين.”

‫شاهد أيضًا‬

في خميس الأسرار…

تيلي لوميار – نورسات – مارلين صليبي هو خميس الأسرار المبارك الذي نتأمّل فيه كم…