مارس 8, 2021

عوده للمسؤولين: إحذروا ثورة الجياع

حذّر متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده من ثورة الجياع، مطلقًا صرخة إلى المسؤولين في لبنان كي يصغوا إلى صوت النّاس عوض الإصغاء إلى مستشاريهم والمحيطين بهم والمطبّلين لهم، وذلك خلال عظة قدّاس الأحد والّتي قال فيها:

“أحبّائي، نسمّي هذا الأحد في كنيستنا أحد مرفع اللّحم أو أحد الدّينونة. لقد عرّفتنا كنيستنا المقدّسة في الأحدين الماضيّين على عنصرين مهمّين يجعلان الصّوم مقبولًا، هما التّواضع والتّوبة. مع إنجيل اليوم، يزاد عنصر مهمّ آخر هو الرّحمة.

لا يقدّم النّصّ الإنجيليّ اليوم مثلاً بل تصويرًا نبويًّا للدّينونة الأخيرة، وكأنّ الإنجيليّ متّى يراها بعينيه على ضوء كلام الله. سوف يأتي ابن الإنسان في مجده كالملك فيدين جميع الشّعوب ويزن سلوكهم في ميزان أعمال الرّحمة الّتي يكونون قد مارسوها أو لم يمارسوها تجاه كلّ محتاج. لقد تماهى يسوع في الماضي مع التّلاميذ، وها هو يتماهى مع كلّ تعساء الأرض. وهو لا يدين المؤمنين فقط بل جميع البشر، انطلاقًا من هذه المحبّة العمليّة. لقد صوّر لنا النّصّ ابن الإنسان كديّان نهاية الأزمنة، وهو يأتي من السّماء ليدين الأرض كلّها. يقول الإنجيل: “وتجمع إليه كلّ الأمم”.

يصف النّصّ الإنجيليّ أعمال الرّحمة الّتي يمكننا جميعًا القيام بها كلّ يوم. وهذه الأعمال لا تتوقّف على الثّروة أو القدرة أو الذّكاء، بل هي أعمال بسيطة، تقدّم مجّانًا، تقوم على المحبّة والرّحمة، ولا عذر لنا في عدم القيام بها، أيّ إهمال من هم في حاجة، ولا يمكننا أن نترك هذه المسؤوليّة على الآخرين. إنّ كلمة إخوتي المستعملة في النّص تشير إلى المتألّمين والمحتاجين في كلّ مكان، وباستعمال ضمير المتكلّم: “لأنّي جعت فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني، وكنت غريبًا فآويتموني، وعريانًا فكسوتموني، ومريضًا فعلتموني، ومحبوسًا فأتيتم إليّ… الحقّ أقول لكم بما أنّكم فعلتم ذلك بأحد إخوتي الصّغار فبي فعلتموه”. يفهمنا الرّبّ أنّ انتظاره، والعمل بمشيئته، يكونان في ممارسة المحبّة الأخويّة تجاه الّذين يعيشون على هامش المجتمع.

يقول القدّيس باسيليوس الكبير: “إنّك ربّما لا تأكل لحمًا لكنّك تنهش أخاك”، ويقول القدّيس غريغوريوس النّيصصيّ: “ماذا ينفعك أن تصوم وتحرم نفسك من اللّحوم، إن كنت بعد ذلك كلّه لا تقوم سوى بنهش أخيك بدناءتك؟ أيّ فائدة تجني، أمام الله، من عدم أكلك ممّا هو لك، إن كنت بعد هذا، وبتصرّف غير عادل، تنتزع من يد الفقير ما هو له؟”. أمّا القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ فيقول: “إذا كان الصّوم عن اللّحم يجعلك تأكل لحم أخيك، فلا تصم عن أكل اللّحم ولكن كفّ عن أكل لحم أخيك”. تشكّل هذه الأقوال نموذجًا عن فكر آبائنا القدّيسين، الّذين يتّفقون جميعًا على أنّ الصّوم غير المقترن بمحبّة الآخر وخدمته ليس صومًا حقيقيًّا.

اليوم نرفع اللّحم عن الموائد، لكنّ الأهمّ هو أن “نرفع قلوبنا إلى فوق”، مثلما تدعونا الكنيسة في القدّاس الإلهيّ، وعندما نرفع قلوبنا نحو الله، نملأها محبّةً حقيقيّة، وهذه المحبّة تظهر من خلال تعاطينا مع الآخر، كائنًا من كان. المحبّة الحقيقيّة لا يمكنها أن تبقى مستترة، بل تخرج إلى العلن، من خلال الأعمال. والصّوم هو طريق لإظهار المحبّة بالأفعال، من خلال انقطاعنا عن المأكل في سبيل مساعدة الآخر بما نوفّره من ثمن ما انقطعنا عنه.

هذا ما يريد الرّبّ أن يعلّمنا إيّاه من خلال نصّ إنجيل اليوم. يريد تذكيرنا أنّ كلّ إنسان مخلوق على صورة الله ومثاله، ويجب علينا أن ننظر إلى كلّ شخص كأنّنا ناظرون إلى الرّبّ. فمثلًا، لا يمكنني أن آتي بالقرابين إلى الهيكل لتقديمها، وإذا رأيت شخصًا جائعًا في طريقي أتجاهله، بل ينبغي أن أعطيه ممّا أحمل، وهذه التّقدمة سيثمّنها الرّبّ وستريح الرّاقد الّذي قدّمنا القرابين من أجل راحة نفسه.

يعلّمنا الآباء القدّيسون أنّنا متى أضفنا محتاجًا، إنّما نضيف الرّب نفسه. هذا هو المعنى العميق لإنجيل اليوم، القائل على لسان الرّبّ يسوع إنّنا متى أطعمنا الجائع، وسقينا العطشان، وآوينا الغريب، وكسونا العريان، وزرنا المريض والمسجون، إنّما نفعل كلّ ذلك بالرّبّ. رفع اللّحم عن الموائد هو تمرين يساعدنا على التّوقّف عن نكران الآخر أو تجاهله أو تعذيبه أو سرقته أو عدم محبّته، لأنّ الحياة المسيحيّة لا تكتمل إلّا بسلوكين: السّلام مع الله، والسّلام مع الآخر.

الرّبّ يسوع، إبن الإنسان، هو الدّيّان العادل، الّذي يقول عنه متّى الإنجيليّ: “إنّ ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازي كلّ واحد حسب عمله” (16: 27). هنا نسأل: هل تتذكّرون أنّ الدّيّان العادل سوف يجازيكم على ما فعلتم بإخوته الصّغار؟ هل تدركون أنّكم تؤلمون الرّبّ كلّما تألّم بسببكم إنسان، مخلوق على صورة الله ومثاله؟ هل يدرك المسؤولون عن هذا البلد أنّهم إن أساؤا إلى شعبهم إنّما هم يسيئون إلى الخالق الّذي سيحاسبهم يوم الدّينونة على كلّ عمل قاموا به. هل يدركون أنّهم إن سلموا من عدالة الأرض بألاعيبهم لن يسلموا من عدالة السماء؟ ليت المسؤولين، كلّ المسؤولين، يصغون إلى صوت النّاس عوض الإصغاء إلى مستشاريهم والمحيطين بهم والمطبّلين لهم. ليت المسؤولين ينزلون من أبراجهم، ويخالطون الشعب ويسمعون أنينه. ليت المسؤولين يستفيقون من سباتهم وإنكارهم للواقع أو تعاميهم عنه، ويتنازلون كلّ من جهته عن تعنّته وشروطه، وعوض أن ينفض كلّ واحد منهم يده ممّا يحدث، ليتهم يتنادون ويتلاقون ولا يتفارقون قبل التّوصّل إلى حلّ يرضي ضمائرهم أوّلاً وشعبهم ثانيًا.

في 17 تشرين انفجر الغضب الشّعبيّ بسبب ضيق الأفق واسوداد الرؤية. اليوم، بعد سنة ونصف السّنة، يتمنى الشّعب لو أنّ الأوضاع السّياسية والمعيشية ما زالت كما كانت يومها، لأنّ الوضع تفاقم، واللّيرة فقدت قيمتها، والسّياسيّين كفّروا النّاس بالسّياسة، وانفجار بيروت أفقد الشّعب ما تبقّى من أمل، واكتملت  المصائب  بالعتمة التي تزيد الظلام ظلامًا، والغلاء الّذي يلتهم ما تبقّى من أموال، والتّلاعب بسعر الدّولار الّذي لم يبق للعملة الوطنيّة قيمة، والاستهتار العامّ عند الجميع، والرّكود والبطالة والعزلة الّتي نعيش فيها… حتّى أصبحت الحياة في هذا البلد كمن يكتوي بنار جهنّم.

إحذروا ثورة الجياع الّتي بدأت بوادرها تلوح. إحذروا ثورة شعب لم يبق له ما يخسره، بعد أن سلبتموه حتّى كرامة العيش. هؤلاء هم الّذين سمّاهم الرّبّ إخوتي. إنّهم الشّعب المقهور والمحروم الّذي أصبح بفضلكم يشتهي قطرة ماء تبلّ رمقه.

يا حكّام بلادي، المحبّة ليست نظريّات وخطابات. الدّفاع عن الإنسان وحقوقه يبدأ باحترامه ومحبّته وتأمين عيش كريم له. ويل لكم من دينونة الرّبّ العادل الّذي سيقول لكم: “إذهبوا عنّي يا ملاعين إلى النّار الأبديّة المعدّة لإبليس وملائكته” لأنّي سلّمتكم مسؤوليّة شعب فجعلتموه جائعًا، عطشانًا، فقيرًا، مريضًا، عائشًا في الظّلمة، مشرّدًا، مفجّرًا، عريانًا… الويل لكم لأنّكم استعبدتم شعبًا خلقته حرًّا، مكرّمًا، فنزعتم عنه كرامته، وأعملتم به تنكيلًا. كفاكم شعارات ومهاترات عبثيّة والشّعب يذلّ يوميًّا. أنتم قسّمتم الشّعب إلى فئات طائفيّة كي تبقوا على استعبادكم له. إن كنتم تعملون من أجل حقوق المواطنين، فلماذا أهلكتم المواطن وثقّلتم كاهله بألاعيبكم السّياسيّة والاقتصاديّة والماليّة حتّى خسّرتموه أمواله وممتلكاته والأمل بغد أفضل؟ عن أيّ حقوق تتحدّثون في بلد لا يستطيع المواطن فيه، المسيحيّ كما المسلم، أن يشتري ربطة خبز يسدّ بها جوع أطفاله! أسألكم باسم الشّعب المتألّم: كيف تنامون والمواطنون يماتون كلّ يوم؟ ربّما تستطيعون أن تهربوا من دينونة الشّعب لكم، لكنّ الرّبّ لا ينعس ولا ينام على حسب قول كاتب المزامير: “أرفع عينيّ إلى الجبال من حيث يأتي عوني. معونتي من عند الرّبّ، صانع السّماء والأرض. لا يدع رجلك تزلّ، لا ينعس حافظك، إنّه لا ينعس ولا ينام… الرّبّ حافظك… الرّبّ يحفظك من كلّ شرّ، يحفظ نفسك. الرّبّ يحفظ دخولك وخروجك من الآن وإلى الدّهر” (مز 121).

يا مسؤولي بلادي، إنّ عوننا الحقيقيّ هو من الرّبّ، لهذا لا نخشى شرًّا تتسبّبون به، لأنّ حافظ حقوقنا الحقيقيّ، الرّبّ، لن يرضى بأن يغلب الشّرّ شعبًا آمن به وتوكّل عليه وسلّمه أمره.

أخيرًا، اليوم، في أحد الدّينونة، نرفع الدّعاء إلى الدّيّان العادل، ونصلّي من أجل أن ينشر عدالته على أرض هذا الوطن الّذي ابتعد المسؤولون فيه عن كلّ طريق مؤدّية إلى الحق والعدل. نقرأ في سفر الحكمة: “لأنّ رجاء المنافق كغبار تذهب به الرّيح، وكزبد رقيق تطارده الزّوبعة، وكدخان تبدّده الرّيح، وكذكر ضيف نزل يومًا ثمّ ارتحل… الإثم يدمّر جميع الأرض، والفجور يقلب عروش المقتدرين” (5: 15 و24). كما نسمع على لسان والدة الإله: “حطّ المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين، أشبع الجياع من الخيرات وأرسل الأغنياء فارغين” (لو 1: 52-53). إيماننا أنّ الرّبّ سيجري عدله على الأرض، ويبلسم جراح كلّ أمّ وأب وطفل وأخ وأخت فقدوا عزيزًا إن بسبب التّفجير الآثم، أو بسبب الوباء، أو لأيّ سبب آخر كان وراءه مسؤول غير مسؤول.

بارككم الرّبّ، وبارك كلّ العاملين الصّامتين، الّذين يعملون حقًّا من أجل إخوتهم البشر، من أطبّاء، وممرّضين، وعاملين في المختبرات الطّبّيّة، وقوى أمن ودفاع مدنيّ ومسعفين، وقضاة نزيهين، وحكّام عادلين وسواهم من الّذين يستحقّون لقب “مسؤولين”، آمين.”

‫شاهد أيضًا‬

في خميس الأسرار…

تيلي لوميار – نورسات – مارلين صليبي هو خميس الأسرار المبارك الذي نتأمّل فيه كم…