أبريل 4, 2022

عوده للّبنانيّين: حكّموا ضمائركم وابتعدوا عمّن يستزلمكم ويستعبدكم ويحاول شراءكم

تيلي لوميار/ نورسات

حكّموا ضمائركم وابتعدوا عمّن يستزلمكم ويستعبدكم ويحاول شراءكم

ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده، صباح الأحد، خدمة القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة توجّه بها إلى اللّبنانيّين من أج تحكيم ضمائرهم في الانتخابات النّيابيّة، وقال:

“أحبّائي، حدّدت كنيستنا المقدّسة، في الأحد الرّابع من الصّوم الكبير المقدّس، أن نقيم تذكارًا للقدّيس يوحنّا المدعوّ “السّلّميّ” نسبةً إلى كتابه “السّلّم إلى الله”. فإلى جانب عيده في 30 آذار، وضعت كنيستنا تذكارًا للقدّيس يوحنّا اليوم، لكي تحثّنا على سلوك طريق الفضائل، مستفيدين من الصّوم الّذي يعمل كمؤدّب ومعلّم للفضائل، طبعًا إذا مارسناه بالشّكل الصّحيح.

ما نعرفه عن القدّيس يوحنّا السّلّميّ قليل جدًّا. لقد لقّب بالعلّامة إذ كان ذا ثقافة واسعة، الأمر الّذي يظهر من طريقة كتابته. في السّادسة عشرة من عمره تتلمذ على أحد شيوخ دير جبل سيناء، وفي يوم تصييره راهبًا قال عنه أحد الآباء إنّه سيكون أحد أنوار العالم. في سنّ العشرين، ذهب إلى الصّحراء لكي يتنسّك، وهناك قضى أربعين عامًا مجاهدًا جهاد التّوبة والصّلاة، محاربًا من الشّيطان، ومناجيًا الله. جرّب بأن يترك نسكه بسبب الضّجر، لكنّه ثبت ولم يتزعزع، وقد اكتسب موهبة الصّلاة الدّائمة ومحادثة الملائكة. بسبب نشاطه في الصّحراء، من إرشاد للرّهبان والعلمانيّين وزيارة المرضى من المتوحّدين، أصاب الحسد بعض الرّهبان ووصفوه بالثّرثار، فصمت سنةً كاملةً، إلى أن عاد ظالموه وتوسّلوا إليه أن يتكلّم من أجل خلاص النّفوس. في نهاية الأربعين سنةً الّتي قضاها في الصّحراء، انتخب يوحنّا رئيسًا لدير جبل سيناء. في أحد الأيّام، طلب إليه الأب يوحنّا، رئيس دير رايثو، أن يكتب “الألواح الرّوحيّة للنّاموس الجديد” من أجل منفعة الرّهبان، فاستجاب طلبه وكتب “السّلّم” وهو شيخ متقدّم في السّنّ. يرجّح أنّه بقي رئيسًا للدّير مدّة أربع سنوات، استقال بعدها ليعود إلى الصّحراء قبل رقاده بسلام.

إنّ كتاب “السّلّم” الّذي وضع لمنفعة الرّهبان أوّلًا، هو نافع لكلّ مسيحيّ يبتغي طريق الكمال، لكنّ المحبّذ ألّا يستخدم إلّا بإرشاد أب روحيّ، خوفًا من التّهوّر والمغالاة. تسميته مستوحاة من رؤيا يعقوب (تك 28: 12-13)، وقد رتّب القدّيس في كتابه ثلاثين درجةً إشارةً إلى سنوات الرّبّ يسوع الثّلاثين قبل ظهوره للعالم.  

السّلّم عند آباء الكنيسة ترمز إلى مسيرة الكمال، باعتبارها صعودًا روحيًّا نحو الله، كما ترمز إلى صليب المسيح، الطّريق الوحيد الّذي يجمع بين الأرض والسّماء. يبدأ هذا الكتاب بدرجات ثلاث تبحث الزّهد في العالم، وينتهي بدرجات أربع تتحدّث عن الاتّحاد بالله. بين الزّهد في العالم والاتّحاد بالله يتكلّم الكتاب على الجهاد المسيحيّ الّذي يضمّ الطّاعة والتّوبة ومحاربة الأهواء وصولًا إلى التّواضع والوداعة والتّمييز.

وبما أنّ القدّيس يوحنّا كان من أعظم الشّافين ومخرجي الأرواح، ومن المحاربين الشّرسين ضدّ الشّيطان وأهوائه، وضعت لنا كنيستنا المقدّسة هذا المقطع الإنجيليّ اليوم، الّذي يتحدّث عن إخراج المسيح للرّوح الأبكم، الّذي لم يستطع التّلاميذ إخراجه.  

لقد جاء المسيح إلى العالم “لكي ينقض أعمال إبليس” (1يو 3: 8)، ولكي يحرّر الإنسان ممّن “له سلطان الموت”، أيّ الشّيطان. هذا ما سار على هديه جميع القدّيسين، الّذين عملوا جاهدين على طرد كلّ ما له علاقة بالشّيطان وقواه الشّرّيرة، وتحرير النّفس البشريّة من عقالات الجحيم. وفي مسيرتنا نحو القيامة، لا بدّ من أن نفهم أنّ الإنسان، بالتّوبة المترافقة مع التّواضع والتّمييز، يقوم من موت الخطيئة، ويضع حدًّا لألاعيب الشّيطان المجرّب. إنّ القدّيسين الّذين اتّحدوا بالمسيح، عرفوا أعماق الشّيطان، الّذي يقول عنه الرّسول بولس: “لا نجهل أفكاره” (2كو 2: 11). معرفة المسيح تمنح المعرفة الحقّة لحبائل الشّيطان. وفي إنجيل اليوم، يظهر لنا المسيح رسالته الحقيقيّة في العالم، الّتي هي انعتاق البشر من سيطرة الشّيطان من جهة، ومن جهة ثانية تعليم البشر كيفيّة طرد الشّيطان. المطلوب منّا أن نصغي بشدّة إلى كلام الرّبّ، حتّى نتعلّم كيف نتحرّر، ونقوم من وقعات الشّرّير وحيله.

الشّيطان متأهّب دائمًا لاقتناص البشر وتعذيبهم، ولا يخلّصنا من حبائله إلّا الصّلاة والصّوم. قال يسوع لتلاميذه: “إنّ هذا الجنس لا يمكن أن يخرج بشيء إلّا بالصّلاة والصّوم”. إيمان المؤمن، المقترن بالصّلاة والصّوم، هو الدّرع الّتي تقيه من حبائل الشّيطان المتربّص به.

أحبّائي، قال الرّبّ للرّسول بطرس: “سمعان، سمعان، هوذا الشّيطان طلبكم ليغربلكم كالحنطة” (لو 22: 31). فمنذ الرّابع من آب 2020، والشّيطان يزيد حيله وتجاربه على شعبنا، مستخدمًا كافة الوسائل. لا نزال نعيش مأساة التّفجير حتّى اليوم، مع رحيل أشخاص جدد ممّن أصيبوا في ذلك اليوم المشؤوم، وما رحيلهم إلّا تذكير للمسؤولين بتقصيرهم، وللمواطنين بتحمّل مسؤوليّتهم تجاه تحرير البلد وأنفسهم من نير من يتحكّمون بمصائرهم. على الشّعب ألّا يخضع للتّرهيب ولا يضعف بسبب الوعيد أو التّجويع والضّغوط الحياتيّة المتزايدة، وألّا يتخلّى عن التّمسّك بإجراء الانتخابات في موعدها. قوّة الشّعب تكمن في صوته الحرّ، إذا مارس حقّه الدّستوريّ بشفافيّة وحرّيّة، بعيدًا عن الرّشوة والتّبعيّة، واضعًا نصب عينيه خلاص البلد أوّلًا.

إن لم يبتعد شعبنا عن العصبيّات الطّائفيّة والحزبيّة، لن يقوم وطننا من الحفرة الجهنّميّة، وسيبقى ذوو السّلطة متحكّمين برقاب النّاس اقتصاديًّا وماليًّا وثقافيًّا وتربويًّا. لا تكونوا مشاركين في تنفيذ حكم الإعدام بحقّ هذا البلد، الّذي كان قبلة أنظار العالم أجمع لتنوّعه الاجتماعيّ، ورقيّه الثّقافيّ، ورفعة قطاعه الطّبّيّ، وإبداع أبنائه الّذين لمعوا في العالم بأسره وكانوا روّادًا في شتّى المجالات.

حكّموا ضمائركم، وابتعدوا عمّن يستزلمكم ويستعبدكم ويحاول شراءكم واستغلال أصواتكم. تذكّروا ودائعكم المنهوبة، وبيوتكم المخروبة، ومصيركم الغامض. لا تنسوا أحبّاءكم الّذين رحلوا في ريعان طفولتهم وشبابهم وعزّ عطائهم، بسبب الفساد والإهمال واسترخاص النّفوس. تذكّروا من تهاون بأرواح البشر ومصير البلد، ومن فجّر بيروت وأعاق سير العدالة، وصرف ودائعكم، وقتل ما تبقّى من سحر الطّبيعة وجمالها بالمرامل والكسّارات والنّفايات والتّعدّي على البحر وعلى الغابات. تذكّروا من لا تعنيهم همومكم الاقتصاديّة والمعيشيّة، ومن لم يتّخذوا القرارات الضّروريّة لوقف التّدهور، ومن لم يحترموا فصل السّلطات، واستقلاليّة القضاء، وحقّ المواطن بالعدالة. تمرّدوا على من أذلّكم وقهركم وخرّب حياتكم وأظلم أيّامكم وبذّر أموالكم. لا تتنازلوا عن تأمين مستقبل مشرّف لأولادكم، وآمنوا أنّ صوتكم هو صوت الحقّ والحرّيّة، وأنّه ضروريّ يوم الانتخاب، لكي لا تكون الانتخابات مجرّد محطّة عابرة، بل استحقاق دستوريّ يرتّب واجبًا على المواطنين هو اختيار ممثّليهم بصوتهم الحرّ وضميرهم الحيّ، بعيدًا عن الولاء الأعمى.

في النّهاية، نستذكر قول القدّيس يوحنّا السّلّميّ القائل: “التّمييز سراج في الظّلام وهدًى للضّالّين ونور للعيون الكليلة. ذو التّمييز يستعيد الصّحّة ويستأصل المرض”. لنتذكّر أنّنا في زمن نحتاج فيه إلى التّمييز أكثر من أيّ أمر آخر، علّنا نصل إلى القيامة المرجوّة على صعيد النّفس الخاطئة، كما على صعيد الوطن المريض، آمين.”

‫شاهد أيضًا‬

الكاردينال يو: ما زال الأمر يستحق العناء أن نكون كهنة، نحن مدعوون لكي نكون سعداء

موقع الفاتيكان نيوز صحيفة الأوسيرفاتوري رومانو في حوار مع عميد دائرة الإكليروس بمناسبة الي…