أكتوبر 18, 2021

عوده: لو يساعد مسؤولو هذا البلد أنفسهم وشعبهم من أجل استعادة سلطة الدّولة

ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- بيروت، حيث شدّد في عظته على أنّ الشّعب بات منهكًا ولم يعد يحتمل الابتزاز والتّهديد، ولا يقبل الإذعان والسّكوت، مؤكّدًا أنّ اللّبنانيّين غير مستعدّين لعيش الحرب من جديد.

وفي تفاصيل عظته، قال عوده:  “أحبّائي، سمعنا في القراءة الإنجيليّة مثل الزّارع الّذي كلّم به الرّبّ يسوع الجمع وأنهاه بـ”من له أذنان للسّمع فليسمع”.

لقد كشف المسيح أسرار ملكوت السّماوات لتلاميذه، بينما كلّم الآخرين بالأمثال، “حتّى إنّهم مبصرين لا يبصرون، وسامعين لا يفهمون” كما قال (لو 8: 10). كان التّلاميذ “من لهم أذنان للسّمع”، وقد انفتحت حواسّ نفوسهم، فاستطاعوا أن يفهموا كلمة المسيح.

إنّ فهم تعاليم الرّبّ لم يكن شأن المنطق وحده، إذ إنّ الرّسل لم يستطيعوا أن يفسّروا، عن طريق المنطق، المعاني الغامضة ولا أن يفهموها. كانوا بسطاء القلب، أناسًا ليس فيهم مكان للغشّ. كان ذهنهم متواضعًا عديم الشّرّ، لذلك ارتشفوا كلمة المسيح بعطش دائم.

لقد استعمل المسيح الأمثال لكي يركّز انتباه سامعيه ولكي يقتلع الشّرّ من نفوسهم، لأنّه عرفهم مأسورين بالاهتمامات المعيشيّة، وليست لديهم أشواق روحيّة عميقة.

لقد تبعوه من أجل أشفيته أوّلًا، ولأنّهم أكلوا من الخبز الّذي منحهم إيّاه. عندما تفوّه المسيح بمثل الزّارع، وحدهم التّلاميذ اهتمّوا باكتشاف معناه. “سأله تلاميذه قائلين: ما عسى أن يكون هذا المثل؟” (لو 8: 9).

فأجابهم المسيح: “لكم قد أعطي أن تعرفوا أسرار ملكوت الله…”، لكم أنتم يا من تسألون وتهتمّون لتعلموا معنى كلامي. أمّا الآخرون، فاكتفوا بالاستماع إلى وصف مشهد من الحياة الزّراعيّة، ولم تكن لديهم آذان للسّمع حتّى يدركوا عمق معاني المثل. هكذا، لم يساعدهم المثل على فهم كلمة المسيح بشكل أفضل.

تحمل كلمة المسيح قوّة حياة متفجّرة، على مثال القوّة الّتي تخفيها البذار، ولهذا تشبّه بها. لقد عبّر عنها المسيح بكلمات بشريّة بسيطة، وكتبها رسله في الأناجيل، وبهذه الطّريقة قبلها المؤمنون.

من خلال هذه الكلمات البشريّة البسيطة تعبر قوّة الله ونور النّعمة، الكلمة الخالقة، وطاقة الحياة الحقيقيّة. كلمة الله هي قوّته الّتي خلقت العالم ولا تزال تجدّد الخليقة.

 هنا يجب التّأكيد على أنّ كلمة المسيح ليست أمرًا سهلًا، بل تتطلّب حواسًّا مناسبة، وهي لا تخصّ ناحيةً واحدةً من كيان الإنسان.

لا يقبلها العقل وحده، بل تمسّ كيان الإنسان بكامله، نفسًا وجسدًا. لا يقدر العقل وحده أن يتعمّق في أسرار حياة الرّوح القدس، إذ بلا تهيئة وإرشاد مناسبين لا نقدر أن ننفتح على دراسة المواضيع الملهمة من الرّوح القدس.

إنّ الرّأي القائل بأنّ المسيح كان يتكلّم ببساطة، ولذلك يجب أن يكرز بكلمته في العالم بطريقة بسيطة، فيه بعض الحقيقة، لكنّه يخفي ضلالًا أساسيًّا. ففي الواقع، إنّ كلمة المسيح ليست بسيطةً، إلّا إذا كنّا سنحدّها كمجرّد قواعد خلقيّة للتّصرّف الحسن، حينئذ تكون بسيطةً جدًّا، لكنّنا هكذا نقلّل من قيمة الكلمة الإلهيّة، ونجهل كلّ غناها.

كلمة المسيح بسيطة للبسطاء وحدهم، الّذين أعتقوا نفوسهم من غلاظة الأهواء، وتنقّت أذهانهم بنعمة الله. هؤلاء، كلّما تعمّقوا في معرفة أسرار الرّوح، شعروا أنفسهم جهلاء وأطفالًا إزاء لجّة حكمة الله.

لقد استعمل الرّبّ يسوع الأمثلة الزّراعيّة من حياة النّاس لكي يفهموا كلامه. وحده الّذي تربطه علاقة روحيّة متينة بالرّبّ يستطيع أن يرتقي من الحياة الأرضيّة إلى الحياة السّماويّة ويفهم الأمثلة على أنّها تخصّ الملكوت.

يصف مثل الزّرع الشّروط الّتي يجب أن تسهم في إثمار كلمة المسيح في القلب. إنّ الكلمة لا تثمر في الّذين لا يدركون عظمتها، وقد ملأوا أذهانهم باهتمامات أخرى، فلم يتركوا مكانًا لما هو أهمّ. فلكي تثمر الكلمة الإلهيّة، على الإنسان أن يقتبلها، ويجتهد في فهمها وتذوّقها ومعرفة أبعادها، ثمّ اعتمادها ناموسًا لحياته والعمل بهديها. ترمى على الطّريق حيث تعبر أفكار النّاس والشّياطين وتعاليمهم بلا رقيب، فتخفي كلمة الحقّ بالضّجيج الكبير الّذي يحدثه الضّلال والكذب.

كذلك لا تثمر الكلمة في الّذين يعجبون بالمظاهر ولا يعملون في العمق. هؤلاء يكتفون ببعض أوامر النّاموس الشّكليّة غير المؤلمة، أو ببعض الأنشطة الاجتماعيّة بلا عمل داخليّ يرافقها. إنّهم يتظاهرون بالتّقوى خارجيًّا، بينما تبقى قلوبهم قاسيةً كالصّخر، باردةً في صلاتها وفي محبّة الله والنّاس. تنكشف قساوتهم الدّاخليّة وقت التّجارب، في الحالات الصّعبة. عندئذ، من شأن الإيمان غير المجبول بعرق الجهادات، الّذي لا يجد تربةً لينمّي الجذور، أن يعطي فرصةً للتّذمّر والابتعاد عن الله.

أخيرًا، لا تقدر الكلمة أن تثمر في قلوب الّذين يختنقون في مشاغل الحياة والغنى والملذّات الّتي تقتل البذار كالشّوك. إنّ كلمة المسيح هي كلمة الحياة، تنقل حياة الله إلينا مثل البذار.

مشكلة حرّيّتنا الخاصّة هي مدى استعداد قلوبنا. في المثل لا يهيّء الزّارع الحقل، بل يكتفي بالزّرع، إذ إنّ إثمار الكلمة هو عطيّة من الله، لكنّه يتطلّب تعاوننا الخاصّ واجتهادنا.

أحبّائي، نعيّد اليوم لآباء المجمع المسكونيّ السّابع، الّذي عقد عام 787 في مدينة نيقية (المعروفة اليوم باسم أزنيك في تركيا).

إلتأم هذا المجمع أساسًا للدّفاع عن موضوع إكرام الأيقونات المقدّسة، الّتي اعتبرها الهراطقة أخشابًا ملوّنةً يعبدها المسيحيّون، وقد أصبحوا يشبّهون المسيحيّين بالوثنيّين بسبب الأيقونات وإكرامها الّذي أسيء فهمه.

لقد حدّدوا الإيمان قائلين: “إنّنا نعبد المسيح ونكرّم القدّيسين وعلى رأسهم والدة الإله، تاليًا نحن لا نكرّم المادّة (الخشب، الحجارة، الألوان) بل الكائن المرسوم فيها، أيّ ما تمثّله”، وقد حدّدت الكنيسة الأحد الأوّل من الصّوم الأربعينيّ المقدّس من أجل الاحتفال بذكرى انتصار الإيمان القويم في ما اختصّ بإكرام الأيقونات.

الأشخاص الّذين يصوّرون في الأيقونات الشّريفة هم الّذين عاشوا الإنجيل وأصبحوا منارات حيّةً أضاءت ظلمة هذا العالم الشّرّير. لقد أثمرت كلمة الله في قلوبهم على حسب ما قرأنا في إنجيل اليوم، والهدف من التّعييد لهم وإكرامهم وتعليق صورهم المقدّسة هو أن نتمثّل بسير حياتهم، وألّا نيأس ونتحجّج ببشريّتنا الضّعيفة، لأنّهم كانوا بشرًا مثلنا.

ووصلوا إلى القداسة المرجوّة، كما علينا نحن أيضًا أن نجاهد حتّى نصل إلى الملكوت السّماويّ، لأنّ ملكوت الله لا يمكن الوصول إليه من خلال الرّاحة والاتّكال على الرّحمة الإلهيّة فقط، بل بالعمل والمثابرة، على حسب ما نرنّم للقدّيسين الشّهداء في الكهنة قائلين: “صرت مشابهًا للرّسل في أحوالهم، وخليفةً في كراسيهم، فوجدت بالعمل المرقاة إلى الثّاوريّا (معاينة الله)، أيّها اللّاهج بالله، لذلك تتبّعت كلمة الحقّ باستقامة، وجاهدت عن الإيمان حتّى الدّم، أيّها الشّهيد في الكهنة (…) فتشفّع إلى المسيح الإله أن يخلّص نفوسنا”.

ولأنّ لا خلاص سوى بالعمل الدّؤوب والاجتهاد والمثابرة، نتمنّى لو يساعد مسؤولو هذا البلد أنفسهم وشعبهم من أجل استعادة سلطة الدّولة وفرض هيبتها والوصول إلى الانعتاق التّامّ من كلّ ارتباط أو استعباد، والحصول على الاستقلال الفعليّ، حتّى يقوم الوطن من كبوته الّتي أوصلته إليها خطايا زعمائه ومسؤوليه الجسام، من صنميّة عبادة الأنا، إلى الجشع غير المتناهي، إلى الاستقواء وتقديم المصلحة الخاصّة الّتي قد تكون مرتبطةً بالخارج، واستغلال الحسّ الطّائفيّ من أجل تجييش التّابعين عند كلّ مفصل… لم يعد شعبنا المنهك يحتمل الابتزاز والتّهديد، ولم يعد يقبل الإذعان والسّكوت.

ما حصل في الأسبوع الماضي يذكّر اللّبنانيّين ببدايات الحرب المشؤومة، وهم غير مستعدّين لعيشها من جديد. لا حياة ولا مستقبل لبلد دون عدالة ودون حكم القانون، والعدالة الحقّة تكون في سيادة القانون على الجميع دون تمييز.

المواطنون متساوون أمام القانون، وعليهم جميعًا، مع المسؤولين، تحكيم العقل والتّحلّي بالوعي والشّعور بالمسؤوليّة من أجل تخطّي هذه المحنة والوصول إلى بناء دولة عصريّة تليق بهم. لذلك مطلوب سريعًا، أن يبذل المسؤولون دم الجهادات الخلاصيّة من أجل هذا الوطن الحبيب، لأنّ الوطن سبقهم ونزف كثيرًا، وهو الآن ينازع في انتظار إكسير الخلاص.

باختياره مثل الزّارع أرانا الرّبّ يسوع كيف يلقي الزّارع بذاره على الأرض كما هي، بما فيها من شوك وصخور وتربة صالحة. هكذا يلقي الزّارع السّماويّ كلمته المحيية دون تمييز بين كبير وصغير، بين عالم وجاهل، بين غنيّ وفقير.

يلقي كلمته على الجميع وهو عالم بما ستلقاه هذه الكلمة من رفض كما على الأرض الصّخريّة، أو عدم اهتمام كما في أرض يأكلها الشّوك، لكنّ غايته ومشتهاه أن يعود الجميع إليه تائبين ومتألّقين بثمار الفضيلة كما الأرض الصّالحة الّتي تقبل البذار وتثمّره. إنّ السّيّد يسعى لخلاص الكلّ مهما كان الثّمن، لكنّ الإثمار لا يتوقف على نوعيّة البذار أو على قدرة الزّارع وحسب، بل على نوعيّة الأرض واقتبالها للبذار.

فلنجعل من قلوبنا ونفوسنا وعقولنا تربةً خصبةً، تزهر فيها الكلمة الإلهيّة إلى مئة ضعف، فنصبح ممّن يستحقّون الملكوت السّرمديّ، آمين.”

‫شاهد أيضًا‬

بطاركة ورؤساء كنائس القدس يجدّدون النداء من أجل السلام في الأرض المقدّسة

بطاركة ورؤساء كنائس القدس يجدّدون النداء من أجل السلام في الأرض المقدّسة | Abouna جدّد الب…