مارس 21, 2022

عوده يحدّد أربعة مخارج خلاصيّة لانتشال الشّعب من هوّة اليأس القاتل، ما هي؟

تيلي لوميار/ نورسات

عوده يحدّد أربعة مخارج خلاصيّة لانتشال الشّعب من هوّة اليأس القاتل، ما هي؟

ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ، صباح الأحد، في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى المطران عوده عظة شدّد فيها على أربعة مخارج من أجل خلاص لبنان، فقال: “أحبّائي، سمعنا في إنجيل اليوم كيف ساعد الرّجال الأربعة رفيقهم المخلّع، فاتّحدوا، وتحدّوا المعوّقات، حتّى يوصلوه إلى المسيح الشّافي.

إنّ الخلاص ليس إنجازًا فرديًّا، إذ لا نستطيع أن نخلص وحدنا. نحن نخلص في كنيسة المسيح “مع جميع القدّيسين” (أف 3: 18). المخلّع في إنجيل اليوم احتاج إلى مساعدة أربعة أشخاص “كشفوا السّقف” و”دلّوا السّرير الّذي كان المخلّع مضطجعًا عليه” وقدّموه للمسيح. إيمانهم منح المخلّع الصّحّتين: النّفسيّة والجسديّة، وقد عبّروا عن هذا الإيمان بطريقة ذكيّة.  

إذا نظرنا إلى هذا الحدث في إطار الخبرة الكنسيّة، يمكننا القول إنّ الإنسان المعاصر مشلول روحيًّا، فاقد الحركة في سرير الجمود الرّوحيّ.

إنّ ما فقدته المجتمعات المعاصرة هو الشّركة الحقيقيّة بين النّاس، فأصبحنا نعيش في صحراء المدن، رغم تفاقم الضّوضاء واكتظاظ الطّرقات، وحيدين، مع رواج أدوات التّواصل. في وسط هذا المجتمع المحتشد، يجد الإنسان المعاصر نفسه وحيدًا، منغلقًا على ذاته، منقطعًا عن الآخرين. إلّا أنّ مجتمع الكنيسة، المبنيّ على المسيح، يبقى مخرجًا وحيدًا في مأزق الانعزال.

لكنّ السّؤال الّذي يطرح هنا: كيف يمكن للمرء أن يعيش شركة الكنيسة؟ كيف يقدر أن يعيش الأخوّة في المسيح، الّتي تلبّي أعمق متطلّبات النّفس البشريّة؟ إنّه يحتاج إلى أربعة يعرفون بخبرتهم وإيمانهم أن يعبروا الحواجز الّتي تعرقل مسيرة الإنسان الرّوحيّة، هم الرّعاة الحقيقيّون، الآباء الرّوحيّون، الإخوة في المسيح، والقدّيسون.

في إحدى المرّات، وصف المسيح الشّعب الإسرائيليّ بأنّهم “خراف لا راعي لها”. كان يقول لتلاميذه إنّ “الحصاد كثير أمّا العملة فقليلون” (مت 9: 37)، وكان يحثّهم على الصّلاة إلى ربّ الحصاد ليرسل عملةً، أيّ الرّعاة الّذين سيكلّمون قلب الشّعب بحسب كلمة النّبيّ: “نادوا، نادوا شعبي. أيّها الكهنة تكلّموا في قلب أورشليم” (إش 4: 1-2). إنّ رعاة الكنيسة القانونيّين، كخلفاء للرّسل بالسّيامة، وأيضًا بالإيمان القويم والحياة، هم نقاط التّرابط في الكنيسة. يقول القدّيس إغناطيوس المتوشّح بالله: “حيث يكون الأسقف تكون الكنيسة الجامعة”. الرّعاة ليسوا ممثّلي المسيح على الأرض، وكأنّه بعيد جدًّا عنّا ومحتاج إلى مندوبين. إنّهم سرّ حضور المسيح الحسّيّ في العالم. كهنوتهم هو كهنوت المسيح، وليس سلطةً قانونيّةً بحسب المفاهيم الدّنيويّة. كهنوتهم هو خدمة الشّعب وعلاجه. له امتياز تواضع المسيح، الّذي غسل أرجل تلاميذه، وقبل عار الصّليب من أجل خلاص العالم. ما من كنيسة من دون رعاة قانونيّين، وما داموا محافظين على استقامة الإيمان، فطّاعتهم هي طاعة الكنيسة. هذه الطّاعة ليس لها معنًى تأديبيًّا، بل تعني تكييف نفوسنا المشوّشة مع وظيفتها الطّبيعيّة. هي تقويم نفوسنا المخلّعة بقوّة المسيح الكلّيّة القدرة، إذ أنّ الرّعاة يحملون ثقل أمراضنا ويأتون بنا إلى المسيح.

لقد قال الرّسول بولس: “لأنّه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح، ولكن ليس لكم آباء كثيرون، لأنّي أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل” (1كو 4: 15). الطّاعة لرعاة الكنيسة القانونيّين تمرّ عبر طاعة الأب الرّوحيّ، الّذي يجدّدنا في المسيح بواسطة قوانين الكنيسة وأسرارها. هو الّذي يرشدنا إلى سرّ الكنيسة. بالنّسبة إلينا، إنّه موسى الشّخصيّ الّذي يخرجنا من مصر الأهواء إلى الحرّيّة الرّوحيّة. يعتقنا من أسر الأفكار، ويفتح لنا طريق الاقتراب من المسيح شخصيًّا. الأب الرّوحيّ هو حامل التّقليد الكنسيّ، وبواسطته نخضع لتقليد الكنيسة. من خلال الأب الرّوحيّ، تعطي الكنيسة صفةً شخصيّةً لخدمتها الرّعائيّة، فتدخل بشكل شفائيّ في أعماق النّفوس المظلمة، لتعالج أسباب أهوائها، وتعتقها منها.

الأبوّة الرّوحيّة تخلق علاقات سليمةً بين الإخوة في المسيح. فالأب الرّوحيّ هو أيضًا الأخ في المسيح، ولا يجدّدنا من خلال نفسه، بل بالإنجيل، لأنّ الأب المشترك هو المسيح. عندما نعيش في أخويّة الكنيسة بالمسيح، نرضي حاجة النّفس البشريّة الأساسيّة، فتنحلّ مشكلة الفرديّة المعاصرة المشوّشة، وتتحقّق الشّركة. إذًا، نحن بحاجة إلى إخوة وآباء ورعاة، وأهمّ ما علينا أن نفهمه هو أنّنا لا نقدر أن نخلص وحدنا. ينبغي أن نطلب مساعدة الآخرين، وأن ننفتح على إخوتنا، ونتّخذ أبًا روحيًّا، ونرتبط برعاة الكنيسة. لكنّ التّركيز على الأنا الّذي يولّده المجتمع اليوميّ المسرف، لا يدعنا نلجأ إلى مثل هذه المخارج الخلاصيّة، لذا نحن بحاجة إلى التّزوّد بإلهام أقوال القدّيسين وحياتهم.

من هنا، خلال الصّوم الأربعينيّ المقدّس، تبرز لنا كنيستنا شخصيّات عظيمةً من إيماننا، عاشت حقيقة المسيح وحقيقة الكنيسة، وعبّرت عنهما. هؤلاء قاموا بعمل رسوليّ، واستمرّوا في حياتهم وأقوالهم في إرشاد شعب الله وإلهامه. إحدى هذه الشّخصيّات القدّيس غريغوريوس بالاماس، الّذي نكرّم ذكراه اليوم كاستمرار لأحد الأرثوذكسيّة. هذا القدّيس دعم أبناء جنسنا في الإيمان القويم خلال حقبة صعبة من التّاريخ، وجاء تعليمه خلاصة كلّ ما لكنيستنا من لاهوت ونسك. هو أحد قدّيسي القرن الرّابع عشر، وقد وقف مدافعًا عن الإيمان القويم في وجه الفلاسفة، وأبرزهم برلعام، الّذين نادوا بالفلسفة والعلوم الدّنيويّة سبيلاً وحيدًا إلى معرفة الله، وتجاهلوا الرّوحانيّة الشّرقيّة والصّلاة القلبيّة، وقال بإمكانيّة معاينة النّور الإلهيّ غير المخلوق، وصولاً إلى التّألّه الّذي هو الاتّحاد الكامل بالمسيح، من خلال اليقظة الدّائمة والتّنقية بالصّلاة والأسرار الإلهيّة.

يا أحبّة، كما أنّ الحياة في الكنيسة بحاجة إلى أربعة لخلاص الإنسان، كذلك بلدنا الحبيب يحتاج أربعةً ينتشلون الشّعب من هوّة اليأس القاتل الّتي أوصل إليها، ويقودونه نحو ميناء الخلاص. بدايةً، شعبنا بحاجة إلى احترام القوانين وتطبيقها دون انتقائيّة، وإلى إرساء العدالة الحقيقيّة، في كلّ القضايا، الصّغيرة قبل الكبيرة، إذ لا يمكن إهمال أيّة قضيّة، مهما كانت صغيرةً، لئلّا يعتاد المخطئ والمجرم والفاسد على الإفلات من العدالة بسبب التّزلّم أو التّحزّب أو التّبعيّة، أو الاختباء وراء حصانات وضعت في الأصل لأهداف محمودة. ولكي تسود العدالة يحتاج البلد إلى قضاء نزيه، مستقلّ، يعمل بتجرّد، وفق القوانين، بعيدًا من السّياسة وآفاتها، ليفرض العدالة ويحاسب كلّ ظالم ومحتكر وفاسد وسارق ومتحرّش ومستقو، ويحمي صاحب الحقّ، لأنّ القضاء من دون محاسبة هو قضاء ناقص مسيّس ومقيّد ولا نزاهة فيه.  

ثانيًا، يحتاج الشّعب هو أيضًا إلى محاسبة كلّ من يسيئ الى البلد أو يعطّل مسيرته، ومحاسبة الشّعب تكون بحجب ثقته، وقت الانتخاب، عمّن لم يحسن تمثيله، والتّكلّم باسمه، والمطالبة بحقّه عبر تشريع قوانين، تطبّق على الجميع وتفرض هيبة الدّولة. كذلك تكون المحاسبة من النّوّاب الّذين يحجبون ثقتهم عمّن قصّر من الوزراء، أو أهمل واجباته، أو استغلّ السّلطة لمآرب شخصيّة، أو لتصفية حسابات.

ثالثًا، بلدنا بحاجة إلى المؤسّسات الفاعلة، الّتي تهدف إلى خدمة المواطن وتسهيل حياته وفقًا للقوانين، علّ المعاملات الرّسميّة تنجز بسرعة، والطّوابير تختفي، ويسود احترام المواطن، كائنًا من كان، وتزول المحسوبيّات والوساطات، والصّفقات والسّمسرات وهدر المال العامّ. ولكي تكون المؤسّسات فاعلةً يجب أن يكون العاملون فيها من موظّفين ومدراء، أمناء لوظيفتهم، يتحلّون بالحسّ الوطنيّ والنّزاهة والكفاءة وحبّ العمل والخدمة، وأن لا يكونوا عالةً على الوطن والمواطنين، وضعوا في مراكزهم للإستفادة عوض الإفادة.

ولكي يتحقّق كلّ ذلك، تبرز الحاجة إلى العمود الرّابع والأساسيّ لخلاص بلدنا وشعبه، أعني الانتخابات النّزيهة الشّفّافة، الّتي تسمح للشّعب الواعي واجباته الوطنيّة أن يوصل من هم أهل للمسؤوليّة إلى مجلس النّوّاب، مجلس ممثّلي الشّعب الّذين يشرّعون ويراقبون ويحاسبون. هكذا ينتظم عمل جميع القطاعات، ويعود الألق إلى راية بلادنا، فترفرف مجدّدًا في كلّ أقطار المسكونة بفخر واعتزاز حرمت منهما على يد جماعة تحكّمت ببلدنا ومصيره، فأظلمت نوره، وهدرت أمواله، وفجّرت أبناءه، وهجّرتهم، وقطّعت أوصال العائلات، وفكّكت المجتمع حتّى أصبح عبارةً عن مجموعات يائسين أو متحزّبين ومتزلّمين ومسترزقين يتناحرون ولا يتحاورون.

دعاؤنا اليوم أن يقوم كلّ خاطئ من فراش الخطيئة ويسمع: “يا بنيّ، مغفورة لك خطاياك”، وأن يوجد من يساعد على قيامة بلدنا الحبيب من شلله، علّنا نفرح جميعًا بهذا النّهوض، في موسم القيامة البهيّ، آمين.”

‫شاهد أيضًا‬

الخميس من أسبوع البيان ليوسف

رسالة القدّيس بولس إلى أهل رومة 11 : 25 – 36 يا إخوَتِي، لا أُرِيدُ، أَيُّهَا الإِخْ…