يناير 17, 2021

“يا معلم، اين تقيم؟ – تعاليا وانظرا” (يو 1: 38-39)

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي
الثاني بعد الدنح
بكركي – الاحد 17 كانون الثاني 2021
“يا معلم، اين تقيم؟ – تعاليا وانظرا” (يو 1: 38-39)

  1. عندما سمع تلميذا يوحنا، شهادته عن يسوع غداة اعتماده، بوحي من الروح القدس، انه “حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم”، تبعا يسوع. ولما رآهما، أدرك ما في قلبيهما من شوق لمعرفته، فسألهما: ماذا تريدان؟”. وكان جوابهما النابع من هذا الشوق:”يا معلم، اين تقيم؟” فأجابهما: “تعاليا وانظرا” (يو 1: 38-39).
    نصلّي كي يولد في قلوبنا هذا التوق لمعرفة يسوع، وللتتلمذ له. مدرسته هي اولاً واساسًا شخصه، ثم تعليمه. فاذا عرفناه شخصيًا احببناه، واحببنا تعليمه وتشوّقنا لمعرفته، كما يعلمنا اياه في الانجيل وتُعلمه الكنيسة.
  2. يسعدنا ان نحتفل بهذه الليتورجيا الالهية، وأن نحيّي كل الذين يشاركوننا فيها روحيًا عبر محطات التواصل : تلي لوميار – نورسات و Charity TV والفيسبوك وسواها، بسبب حالة الطوارىء الصحية المفروضة من جرّاء جائحة كورونا. فنصلّي معًا من اجل شفاء المصابين بهذا الوباء وإبادته، والراحة الابدية لضحاياه وعزاء عائلاتهم. واذ تحتفل الكنيسة بعيد القديس انطونيوس الكبير، أبي الرهبان نوجّه التهنئة لراهبانياتنا المارونية بالعيد وبتجديد النذور الرهبانية، سائلين لها دوام التقدم والازدهار مع تقديس اعضائها.
    3.الرحلة مع الرب يسوع تبدأ من السماع عنه ،كما جرى مع تلميذي يوحنا المعمدان لما شهد على مسمعهما ان يسوع هو “حمل الله”. فتبعاه، وكان الحوار وكان الاكتشاف. لقد دخلا في صميم العلاقة معه حتى عرفاه بكامل حقيقته. اكتشفا انه المسيح المنتظر، كما اعلن اندراوس، احد التلميذين، لاخيه سمعان. ولما اتى هذا بشوق الى يسوع، قرأ الرب ما في قلبه من حبّ وتوق لمعرفته، فبادره بالقول:” انت سمعان بن يونا، ستدعى الصخرة أي بطرس” (يو 1: 42). وهكذا جرى للقديس انطونيوس، فهو ذات يوم سمع كلام الانجيل :” من أراد ان بكون كاملًا فليترك كل شيء ويتبعني”. سقطت الكلمة في قلبه وغيّرت مجرى حياته وصار ابَ الرهبان جميعًا.
    واذا اكملنا قراءة نصّ الانجيل، نرى ان يسوع دعا فيليبس لاتباعه، فدخل هذا في مدرسة يسوع التي هي شخصه، به نؤمن، واياه نحب. ثم نصغي لتعليمه نورًا وهداية.
    وفيليبس بدوره التقى نثنائيل، فنقل اليه الخبر السّار: ” يا نثنائيل، ان الذي كتب عنه موسى والانبياء قد وجدناه، وهو يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة” (يو 1 : 45).
  3. من هذه الاختبارات يتّضح لنا اننا اذا قبلنا الكلمة التي نسمعها عن حقيقة يسوع المسيح، ايًا يكن مصدرها، وحفظناها في قلوبنا ” كحبة قمح تُزرع في الارض” (لو 8:8) او “كخميرة تُطمر في العجين” (متى 33:13)، أدخلتنا في شركة حياة وصداقة معه، وفي مسيرة حياتية تتجدد وتنمو من خلال اكتشاف وجهه يومًا بعد يوم.
    ان الذين التقوا يسوع، بشوق قلب، وهم: اندراوس ويوحنا التلميذ الآخر، وسمعان بطرس، وفيليبس ونثنائيل، تبدّلت حياتهم واصبحوا من الرُسل الاثني عشر، اعمدة الكنيسة. وهذه دعوة ورسالة لم تكونا من ضمن مشاريعهم البشرية، ولا من ضمن احلامهم.
    اجل، عن نفسه يتكلم الربّ يسوع عندما يقول :” يشبه ملكوت السماوات ” كنزًا مخفيًا في حقل وجده رجل ومن فرحه مضى وباع كل شيء واشترى ذلك الحقل” (متى 44:13)، و”جوهرة ثمينة رآها تاجر فباع كل ما له واشتراها” (متى 46:13). يسوع بالنسبة الى كل انسان، هو هذا “الكنز”، وهذه “الجوهرة الثمينة”. في سبيل اقتنائهما نضحّي بكل شيء.
  4. يسوع المسيح يصوّب تفكير كل شخص بشري ومنطقه ومسلكه ونظرته الى الحياة، لانه “النور الذي ينير كل انسان آتٍ الى العالم” (يو 1: 4-9). من لا يتبعه يهيم في الظلام، ظلام الانانية والكبرياء، ظلام السيطرة والنفوذ، ظلام الاستبداد، ظلام المصلحة الخاصة والحسابات الشخصية.
    ان اول ما يحتاج اليه كل مسؤول ولا سيما السياسيون هو هذا النور الالهي، لكي يخرجوا من تعثّراتهم، وتحجّر مواقفهم الذي يجعلهم أسراها. ينبغي ان يعرفوا ان لبنان، كما يصفه القديس البابا يوحنا بولس الثاني “قيمة حضارية ثمينة”، و”يشكّل ارثًا للبشرية، كونه مهد ثقافة عريقة واحدى منارات البحر الابيض المتوسط” كما يستهل الارشاد الرسولي: رجاء جديد للبنان. فعلى ارضه تلاقي الاديان وحوار الحضارات، وعيش المسيحيين والمسلمين معًا بالمساواة، وهو مصدر استقرار لبناء مجتمع اخوّة وسلام (راجع: شرعة العمل السياسي بكركي 5 آذار 2009، ص 27).
    لبنان هذه الجوهرة الثمينة بات في حالة تقويض لم نكن ننتظرها في مناسبة الاحتفال بمئويته الاولى: تأليف الحكومة معطّل، القضاء فريسة التدخل السياسي والمذهبي، الاقتصاد مشلول في كل قطاعاته ، نصف مدينة بيروت مهدّم، سكانه منكوبون، اهالي الضحايا مهمَلون، نصف الشعب اللبناني في حالة فقر. ان الباب المؤدّي الى طريق الحلّ لكل هذه الامور هو تشكيل حكومة انقاذ مؤلفة من نخب لبنانيّةِ، شخصيات نَجحَت وتفوقّت في لبنان والعالم، وتَتوقُ إلى خدمةِ الوطن بكل تجرّد، وتحملِ مسؤوليّة الإنقاذ وترشيدِ الحوكمة. فالمطلوب من رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف ان يقدّما للشعبِ أفضلَ هذه الشخصيّات، لا من يَتمتّع فقط بالولاءِ للحزبِ أو بالخضوعِ للزعيم. لبنان يزخر بشخصيات تعطي اللبنانيين والعالم صورة وطنهم الحقيقية.
    6.من هذا المنطلق، سعيت شخصيًا بحكم المسؤولية الى تحريك تأليف الحكومة من أجل مصلحة لبنان وكل اللبنانيين. فلقي كثيرون في هذه المساعي بارقة أمل. وكون الدستور يُحدّد بوضوح دور كلٍّ من رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف، تمنّيت عليهما أن يعقدا لقاء مصالحة شخصية تعيد الثقة بينهما، فيُباشرا الى غربلة الاسماء المطروحة واستكشاف اسماء جديدة وجديرة، واضعين نصب اعينهما فقط المصلحة العامة وخلاص لبنان، ومتجاوزين المصالح الآنية والمستقبلية، الشخصية والفئوية.
    وفي هذه الحالة نتمنى على فخامة رئيس الجمهورية اخذ المبادرة بدعوة دولة الرئيس المكلّف الى عقد هذا اللقاء. فالوقت لا يرحم، وحالة البلاد والشعب المأساوية لا تبرّر على الاطلاق أي تأخير في تشكيل الحكومة.
  5. الدستور والميثاق الوطني المجدَّد في اتفاق الطائف، ثلاثة توجب على السلطة السياسية التقيّد بنصوصها وبروحها، واستكمال تطبيقها، وتصويب ما اعوج منها في الممارسة، وتعزيز استقلالية القضاء كسلطة رابعة مستقلة، وحماية مؤسسة الجيش في كرامتها وهيبتها وكامل حقوقها. ان كرامة اللبنانيين من كرامة الجيش، والثقة بالقضاء هي الثقة بلبنان. اذا كانت لنا دولة تضع القانون فوق الجميع، وتحافظ على فصل الدين عن الدولة، ولا يستغل فيها السياسيون الطائفة والمذهب لاغراضهم السياسية، واذا كانت لنا حكومةٌ ولاءُ وزرائها للبنان فقط دون سواه، عندها نستطيع القول: ان فجرًا جديدًا اطلّ على لبنان، ولا حاجة لدعوة الى تغيير النظام، بل للتقيّد به.
  6. بايمان ورجاء نكل الى عناية الله وطننا وشعبنا، راجين العودة الى العيش في حياة مخلصة مع المسيح الرب، والاستنارة بكلامه الحي، هاتفين مع صاحب المزامير :”كلمتك مصباح لخطايَ ونورٌ لسبيلي” (مز 119).
    للثالوث القدوس، الآب والابن والروح القدس، كل مجد وتسبيح، الآن والى الابد. آمين.

‫شاهد أيضًا‬

البابا يعرب عن قلقه حيال آخر التطورات في الشرق الأوسط ويطلق نداء جديداً من أجل السلام

البابا يعرب عن قلقه حيال آخر التطورات في الشرق الأوسط ويطلق نداء جديداً من أجل السلام R…