مارس 2, 2022

يونان في رسالة الصّوم: “من هو قريبي؟”

تيلي لوميار/ نورسات

يونان في رسالة الصّوم

تحت عنوان “من هو قريبي؟!” (لو 10: 29)، وجّه بطريرك السّريان الكاثوليك مار إغناطيوس يوسف الثّالث يونان رسالة الصّوم الكبير لعام 2022، جاء فيها:

“1. مقدّمة

تدعونا أمّنا الكنيسة كي نمارس الصّوم مدّة أربعين يومًا قبل أسبوع الآلام الخلاصيّ الّذي يقودنا إلى عيد القيامة المجيدة، مُذكِّرةً إيّانا بصوم الرّبّ يسوع في البرّيّة وانتصاره على إبليس. في زمن الصّوم المقدّس، تتحرّر النّفس كي تقبل عطيّة الخلاص المجّانيّة، فتنطلق في مسيرة الشّركة الحبّيّة مع فاديها الإلهيّ، إذ تشاركه في “فصحه” بالعبور من العبوديّة إلى الحرّيّة، ومن الموت إلى الحياة.

الصّوم زمنٌ قربانيّ نقبل فيه محبّة يسوع، ونتعلّم كيف ننشرها حولنا في كلّ حركة وكلمة: نفتح قلوبنا على جراح الّذين يتألّمون في كرامتهم البشريّة، ونندفع بمحبّة المسيح إلى محاربة الشّرور وأشكال الظّلم، من ازدراء المستضعَفين واستغلال المهمَّشين، وإلى التّخفيف من مآسي العزلة والإهمال والحاجة للعديد من الأشخاص.

2. مفهوم الصّوم

إنّ الصّوم يقرّبنا من الرّبّ روحيًّا، وهو، إلى جانب كونه “انقطاعًا” عن الطّعام لفترة محدَّدة من اليوم، تمتدّ من منتصف اللّيل حتّى الظّهر، ثمّ “قطاعةً” تقوم على الاكتفاء بتناول الأطعمة الخالية من المنتجَات الحيوانيّة، فالصّوم زمن التّجدّد والتّحوّل الدّاخليّ وتفعيل المحبّة الّتي يزرعها الله في قلب المؤمن. ويشمل هذا التّجدّد والتّحوّل علاقةً متلازمةً ومتكاملةً مع الله ومع القريب.

ينوّه قداسة البابا فرنسيس في رسالته لزمن الصّوم لهذا العام 2022، إلى أنّ: “زمن الصّوم الأربعينيّ يدعونا إلى التّوبة، وتغيير العقليّة، فلا تكون حقيقة الحياة وجمالها في الامتلاك الكثير بل في العطاء، وليس في تكديس المال بل في صنع الخير والمشاركة مع الآخرين… ولا ننظر إلى هذه الدّعوة إلى زرع الخير على أنّها عبء، بل هي نعمة يريد بها الخالق أن يشركنا في سخائه الجزيل”.

ويتابع قداسته في رسالته مؤكّدًا أنّ “الصّوم الجسديّ الّذي يدعونا إليه الزّمن الأربعينيّ يقوّي روحنا، لمحاربة الخطيئة. لنطلب المغفرة في سرّ التّوبة والمصالحة ولا نملّ، عالمين أنّ الله لا يملّ أبدًا من أن يغفر.”

3. علاقتنا مع الله والقريب

يدعونا الصّوم كي نجدّد علاقتنا مع الله الآب السّماويّ، ينبوع المراحم، فنعود إليه بالتّوبة الحقيقيّة، ونتحرّر من عبوديّة الجسد والأهواء البشريّة. كما أنّنا نسعى لعيش حياة التّلمذة للمعلّم الإلهيّ، من خلال الإصغاء إلى كلامه الحيّ عبر مواعظ الصّوم والرّياضات الرّوحيّة، والحوار معه لاكتشاف إرادته، والتّجاوب مع تصميم حبّه الخلاصيّ باستسلام تامّ لمشيئة الآب، مُتشبّهين بيسوع في صومه وصلاته أربعين يومًا، بعد قبوله المعموديّة في نهر الأردنّ على يد يوحنّا المعمدان، ومحاربته تجارب الشّيطان والانتصار عليه.

أمّا العلاقة مع القريب، فهي تتجدّد وتتحوّل بتجسيد المحبّة الفاعلة على تنوّعها: مشاركة المتألّمين والضّعفاء والمحتاجين آلامهم، ومساندتهم، وتشديد ضعفهم، وسدّ احتياجاتهم الرّوحيّة والمادّيّة. وكم يحتاج قريبنا اليوم إلى أعمال الرّحمة هذه. يقول قداسة البابا فرنسيس: “إنّ صنع الخير متعِب… لكنّ درب القداسة ليست للكسالى!”. فالإلتفات نحو القريب وتلبية احتياجاته يتطلّب جهدًا كبيرًا، ولكنّ الله قادرٌ على صنع المستحيل فينا ومن خلالنا نحن رسله في قلب هذا العالم. كما أنّنا نجد معنىً لحياتنا في مساعدة الآخر المتألّم، في فهم قلق الآخرين، وفي التّخفيف من معاناتهم”.

من هنا، إنّ الصّوم لا يؤتي ثماره كاملةً إلّا إذا جعلْنا الفقيرَ والمحتاجَ خيارَنا الأساسيّ في هذا الزّمن. فنحن نمتنع عن الطّعام ليأكل هو، وكي نشعر مع من ضاقت الحياة في وجهه. هذا كان منطق الصّوم في الكنيسة الأولى، إذ “كانوا يجعلون كلّ شيءٍ مشترَكًا بينهم” (أع2: 44). إنّها شركةٌ تؤكّد على أنّنا عائلة روحيّة واحدة في جسد المسيح السّرّيّ. ولا أحد، ميسورًا كان أم معوزًا، يحقّ له أن يعفي ذاته من فرح العطاء للمحتاجين وإظهار الرّحمة لمن هم بأمسّ الحاجة إليها. إنّ رسالة الصّوم هي أن ينعتق المؤمنون من عبوديّة الذّات، فينطلقوا نحو الآخر، متحرّرين من أنانيّتهم، ومتمسّكين بمحبّتهم وغيرتهم الرّسوليّة الّتي لا تعرف التّمييز بين لون أو عرق أو دين، وهذا ما سيُظْهِرُه لنا يسوع في تعليمه من خلال مَثَل السّامريّ الصّالح (لو10: 25-37).

4. مَثَل السّامريّ الصّالح  

يجيب الرّبّ يسوع على سؤال أحد علماء الشّريعة: “من هو قريبي؟”(لو10: 29)، فيروي مَثَل السّامريّ الصّالح، حيث يخبرنا عن إنسان مسافر هاجمه اللّصوص، فجرّدوه من لباسه وضربوه وتركوه بين حيٍّ وميت. فمرّ كاهنٌ ثمّ لاويٌّ بذات الطّريق ورأياه، لكنّ كلاهما تجنّبه. وبعدهما جاء سامريٌّ، فقدّم له المعونة وعالجه، رغم العداوة بين السّامريّين واليهود.  

يرتكزُ هذا المَثَل على أربع شخصيّات، هي: “الرّجل النّازل من أورشليم إلى أريحا”، الّذي وقعَ في أيدي اللّصوص، فسلبوه كلّ ما يملِكُ، وتركوه بين حيٍّ وميت. “الكاهن”، الّذي كان يقوم بخدمة الهيكل، إذ من عادتِهِ تقديم ذبيحة المحرقة اليوميّة، مرّةً صباحًا ومرّةً مساءً. “اللّاويّ”، وهو أقلّ درجة من الكاهن، من واجباته الاهتمام بالصّلوات الطّقسيّة (اللّيتورجيا) داخل الهيكل والحفاظ عليها. “والسّامريّ”، الّذي كان تاجرًا يقصدُ أريحا، وكان عدوًّا لليهود بسبب قُربِ السّامريّين من الأمم الأخرى وقت السّبي. لذلك لدى سؤال يسوع لمُعلّم الشّريعة: “مَن كانَ في رأيكَ، مِن هؤلاء الثّلاثة، قريبَ الّذي وقع بأيدي اللّصوص؟”، لم يقل معلّم الشّريعة في النّصّ الإنجيليّ: “السّامريّ”، بل قال: “الّذي عَامَلَهُ بالرّحمة” (لو10: 37).

5. “أريد رحمةً لا ذبيحة” (مت12: 7)

لقد أظهرَ الشّخصان المتديّنان (الكاهن واللّاويّ) عدم محبّتهما للقريب، ومع أنَّهما متخصِّصان في حُبِّ الله وحُبِّ القريب ورحمته، فلَمْ يساعدا هذا الرّجلَ المسكين، ولا نعرف السّبب في ذلك!

يقول قداسة البابا بنديكتوس السّادس عشر في كتابه “يسوع النّاصريّ”: “ليس أكيدًا أنَّ الأمر يتعلّق بإنسانَينِ بلا رحمةٍ وقلبٍ، ربّما لأنَّهما كانا يحاولان الوصول إلى المدينة بسرعةٍ لسبب تأخُّرِهما على مواعيد الصّلاة، ربّما كانا يجهلان ما ينبغي عملهُ للمساعدة، لاسيّما أنّهُ لم يبقَ في الظّاهر ما يُسعفانِه به، إذ ظنّا أنّه كان ميّتًا، فيتعرَّضُ من يلمسه للنّجاسة”. لقد أعطى الكاهن واللّاوي الأولويّةَ لقاعدةٍ بشريّةٍ مرتبطةٍ بالعبادة، وهي عدم التّدنُّس بسبب الدّمّ، بدل الوصيّة العظمى لله، الّذي يريد الرّحمة أوّلاً: “أريد رحمةً لا ذبيحة” (مت 12: 7). فالله لا يريد ذبائحنا الّتي نقدّمها بطريقة شكليّة، فيما يتجاهل قلبُنا نداءَ المحبّة، ولكنّه يريد رحمةً، أيّ قلبًا مملوءًا حبَّا ثابتًا. يريد الله الأعمال النّاشئة عن توبة وتغيير حقيقيّ في القلب، وهذه تتّضح في تعامُلنا برحمةٍ وتحسُّسنا آلام الآخرين.

في المقابل، نجد السّامريّ، وهو إنسانٌ عاديّ، لا يهتمّ بالتّطبيق الجامد للمعطيات الدّينيّة كي يبرّر تجاهُله نداءَ المحبّة، وهو ليس فقيهًا بالشّريعة، بل يتحرّك بسرعةٍ لنجدة الآخر ومساعدته. لم يُبالِ السّامريّ أو يهتمّ بالعداوة الموجودة بينه وبين اليهود، بل دفعَتْهُ الرّحمة إلى تجاوُز كلّ الحواجز والموانع، لأنَّه وجد ذاتَهُ أمام إنسانٍ يتعذَّب، إنسانٍ في حاجةٍ ماسّةٍ إلى المساعدة. الإنسان يبقى إنسانًا، قبل أن يكون سامريًّا أو يهوديًّا.

عندما عاين السّامريُّ الرّجلَ المنطرحَ على الطّريق وعلمَ أنّه يهوديّ، رأى فيه أخًا له في الإنسانيّة يحتاج إليه، فتحرّكت الشّفقة والرّحمة في داخله، وأراد أن ينقذه من العذاب والموت. ومن هنا تأتي كلمة رحمة، من الرّحم، أيّ من الأحشاء، وكان هذا السّامريّ يدرك جيّدًا أنّ شريعة الله تنبع من القلب، وليس من الأفكار النّظريّة والمظاهر العلنيّة. “إنّ السّامريّ يتصرّف برحمةٍ حقيقيّة: ضمّد جراح ذاك الرّجل، وذهب به إلى فندق، واعتنى بأمره. المحبّة الرّحومة والشّفوقة ليست شعورًا مُبهمًا، بل تعني الاعتناء بالآخر بلا ثمن ودون انتظار مكافأة. إنّها الالتزام من خلال القيام بجميع الخطوات الضّروريّة للاقتراب من الآخر، وصولاً إلى التّشبّه به… لا وجود لعبادةٍ حقيقيّةٍ ما لم تتجسّد في خدمة القريب” (من كلمة قداسة البابا فرنسيس خلال مقابلته العامّة مع المؤمنين، الأربعاء 27 نيسان 2016).  

وها هم آباؤنا السّريان يجودون في التّأمّل بهذا المَثَل:

“ܠܶܣܛܳܝ̈ܶܐ ܢܦܰܠܘ̱ ܥܰܠ ܓܰܒܪܳܐ ܟܰܕ ܢܳܚܶܬ ܗ̱ܘܳܐ܆ ܡܶܢ ܐܽܘܪܫܠܶܡ ܠܺܐܝܪܺܝܚܘ ܘܰܕܠܳܐ ܚܰܘܣܳܢ ܒܠܰܥ. ܥܒܰܪ ܐܰܒܪܳܗܳܡ ܘܠܳܐ ܝܰܗ̱ܒ ܠܶܗ ܐܺܝܕܳܐ܆ ܘܶܐܬܳܐ ܡܽܘܫܶܐ ܘܠܳܐ ܥܨܰܒ ܡܰܚܘ̈ܳܬܶܗ. ܐܶܬܳܐ ܡܳܪܰܢ ܘܝܰܗ̱ܒ ܠܶܗ ܐܺܝܕܳܐ ܘܦܰܓܪܶܗ ܘܰܕܡܶܗ܆ ܘܰܐܩܺܝܡܶܗ ܘܫܰܪܺܝ ܩܳܥܶܐ: ܠܳܟ ܫܽܘܒܚܳܐ ܡܳܪܝܳܐ. ܗܰܠܶܠܽܘܝܰܗ܆ ܕܰܣܥܰܪܬܳܢܝ̱ ܒܪ̈ܰܚܡܰܝܟ”، وترجمته: “إنسانٌ كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا، فوقع بين لصوص، وضربوه بدون شفقة. فمرّ به ابراهيم (الممثَّل بالكاهن) ولم يساعده، وجاء موسى (الممثَّل باللّاوي) ولم يضمّد جراحاته. وعندما أتى ربّنا، ساعده وأقامه بواسطة جسده ودمه، فابتدأ يصرخ: المجد لكَ يا ربّ، هلّلويا لأنّك افتقدْتَني بمراحمك”.

6. كيف نعيش هذا القرب من الآخرين على مثال السّامريّ الصّالح؟

يعطينا السّامريّ الصّالح درسًا بالقدوة والعمل والخدمة والتّضحية بالوقت الثّمين لإنقاذ الآخرين، وإدخال السّعادة والفرح إلى قلوبهم، وصولاً إلى بذل الذّات من أجلهم.

يقول قداسة البابا بنديكتوس السّادس عشر في الرّسالة العامّة “الله محبّة DEUS CARITAS EST””حتّى ذلك الوقت، كان مفهوم “القريب” يدلُّ جوهريًّا على الأشخاص المنتمين إلى الشّعب عينه، بالإضافة إلى الغرباء الّذين استقرّوا في أرض إسرائيل. بكلمةٍ أخرى، كان يدلّ على جماعةٍ متماسكةٍ في بلدٍ أو في شعبٍ معيَّن. تُلغى الآن هذه الحدود: أيّ شخصٍ يحتاجني وبإمكاني مساعدته، هو قريبي. يتّخذ إذًا مفهومُ “القريب” بُعدًا شموليًّا، ومع ذلك يبقى واقعيًّا” (“الله محبّة”، فقرة 15).

إنّ “القريب” إذًا ليس فكرةً نظريّةً، إنّما هو واقع ملموس. من خلال هذا المَثَل يريد يسوع أن يعلّمنا أنّ الإنسان واحدٌ، أيًّا كان لونه أو جنسه أو عرقه أو معتقده أو دينه. ولا توجد سوى علاقة واحدة تجمعنا على الأرض وهي: “الله والإنسان”. وكلمة “قريب” تعود إلى فعل “ܩܰܪܶܒ قرّب قربانًا”.

يقول لوقا الإنجيلي: “تركه اللّصوص جريحًا بين حيّ وميّت؟” (10: 30). أليست هذه أيضًا حالة يسوع وهو على الصّليب؟ عرّوه ولطموه وبصقوا عليه وضربوه وتركوه وحيدًا؟ هكذا كان مصير يسوع، ومصير التّلاميذ.

لقد أعطى السّامريُّ صاحبَ الفندق دينارَيْن كي لا يتقاعس عن خدمة الرّجل الجريح، ويسوع أعطانا جسده ودمه، وأسّس الكنيسة (صورة الفندق) لترشدنا وتعتني بنا دومًا وتقودنا على طريق سيّدها. “فالكنيسة هي عائلةُ الله في العالم. في هذه العائلة لا يَجِبُ أنْ يعاني أحدٌ من نقصِ ما هو ضرويّ بسبب الحاجة” (“الله محبّة”، فقرة 25 ب).

كما أنّ السّامريّ هو رمزٌ لكلّ شخص يعطي ويبذل كلّ ما لديه من أجل أخيه الإنسان، وليس فقط على الصّعيد المادّيّ، بل أيضًا من النّاحية المعنويّة والرّوحيّة، فيكون مبادرًا دائمًا ليعتني بأخيه ويهتمّ به. وفي هذا الإطار، يقول قداسة البابا بنديكتوس السّادس عشر في كتابه “يسوع النّاصريّ”: “إنَّ السّامريّ الغريب أصبح هو نفسه قريبي وعلّمني أنّه عليَّ أن أتعلَّم بنفسي، من الدّاخل، أن أكون “قريب” الجميع. لكن كيف يكون ذلك؟ الجواب موجود عندي أنا. ينبغي عليَّ أن أصبح مُحِبًّا، شخصًا يتأثَّر قلبه بضيق الآخر، عندئذٍ أستطيع أن أجد قريبي، وبالأصحّ، يجدني هو”.

7. السّامريّ الصّالح نموذجٌ لشريعة المحبّة الّتي تغلب الشّرور

ذكر الرّبّ يسوع هذا السّامري، لا ليكرّم السّامريّين، ولا ليُهينَ الكهنة واللّاويّين، لكن ليعلّم أنّ الغريب عن الدّين الّذي يطيع شريعة المحبّة خيرٌ من خادم الدّين الّذي يخالفها، وأنّ الدّين لا يقوم فقط على حفظ الشّريعة والطّقوس المذهبيّة، إذ أنّ الشّخصين اللّذين أتمّا في الهيكل المقدّس حفظَ الشّريعة والطّقوس، خالفا أساس الدّين المتعلّق بمحبّة القريب. ومن يخالف وصيّة محبّة القريب لا يمكن أن يكون محبًّا حقيقيًّا لله.  

حطَّم يسوع كلّ الحواجز العنصريّة، وأعلن أنَّ كلّ إنسانٍ هـو قريب كلّ إنسان. القريب هو المحتاج إلى محبَّتي ورحمتي. إنّ هذه المحبّة، محبّة القريب الّتي يتكلّم عنها يسوع مجيبًا على سؤال معلّم الشّريعة، هي أهمّ ما في الوجود، فَمِن خلالها يتعرّف الأخ على أخيهِ، والإنسان على الإنسان، ويحبّه ويحنُّ عليه. سرد يسوع مَثَلَه كي يساعد معلّم الشّريعة على استخلاص العبرة بنفسه، فيجاهر بأنَّ الأقرب إلى الجريح كان السّامريّ، حتّى ولو كان عدوًّا لليهود.

في عالمنا اليوم، هناك العديد من الشّرور، إلى جانب الحروب والكوارث والأمراض والأوبئة، ولكنَّ أسوأها هو النّقص في الحبّ، لأنّ الحبّ هو الحياة، ولأنّ الإنسانَ خُلِقَ لكي يُحبّ ويكون محبوبًا. إنَّ محبّةَ القريب هي فضيلة الشّعور الصّادق بحضور الآخر الّذي ينتظر أن أُحبَّه بصدق وتجرّد، بعيدًا عن الأنانيّة والتّجاهل والحكم الباطل. وقد يصل هذا الحبّ إلى احتمال الألم وبذل الذّات من أجله، كما فعل الرّبّ يسوع، إذ ضحّى بنفسه من أجل خلاص نفوسنا ومغفرة خطايانا، وسفك دمه الثّمين على خشبة الصّليب، مفتديًا إيّانا والعالم بأسره، كلّ هذا لأنّه أحبّنا وأحبّ جميع النّاس حتّى الموت، موت الصّليب.

يقع على عاتقنا اليوم أن نساهم في بناء عالمٍ أفضل، ويتحقّق ذلك “فقط عندما نصنع الخير الآن وبشكلٍ شخصيّ، من كلّ القلب، وحين نجدُ فرصةً مناسِبةً، بعيدًا عن الاستراتيجيّات والبرامج الفرديّة والمصالح الفئويّة والحزبيّة. إنَّ برنامج المسيحيّ هو برنامج السّامريّ الصّالح، إنّه برنامج يسوع، هو “قلبٌ ذو بصيرة”، هذا القلب يرى الحاجة إلى المحبّة، ويتصرَّف وفقًا لذلك” (“الله محبّة”، البابا بنديكتوس السّادس عشر، فقرة 31 ب).

8. خاتمة:

وخير ما نختم به طلبة مار يعقوب السّروجيّ في زمن الصّوم، سائلين الله “أن يؤهّلنا كي نصوم كلّنا بقداسة، صومًا نقيًّا ترتضي به أولوهيّته”: “ܐܰܫܘܳܢ ܡܳܪܰܢ ܕܰܢܨܽܘܡ ܟܽܠܰܢ ܩܰܕܺܝܫܳܐܺܝܬ܆ ܨܰܘܡܳܐ ܕܰܟ̣ܝܳܐ ܕܡܶܬܪܰܥܝܳܐ ܒܶܗ ܐܰܠܳܗܽܘܬܳܟ”.

ختامًا، نسأل الله أن يتقبّل صومكم وصلاتكم وصدقتكم، ويؤهّلنا جميعًا لنحتفل بفرح قيامته من بين الأموات. ونمنحكم، أيّها الإخوة والأبناء والبنات الأعزّاء، بركتنا الرّسوليّة عربون محبّتنا الأبويّة. ولتشملكم جميعًا بركة الثّالوث الأقدس: الآب والإبن والرّوح القدس، الإله الواحد. والنّعمة معكم.”

‫شاهد أيضًا‬

في خميس الأسرار…

تيلي لوميار – نورسات – مارلين صليبي هو خميس الأسرار المبارك الذي نتأمّل فيه كم…