عوده: الخروج من الهاوية لا يصير إلّا باتّحاد الشّعب!
تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس.
وبعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى عظة قال فيها:
“أحبّائي، ها نحن نقف عند عتبة الصّوم الأربعينيّ الكبير المقدّس، وينفتح أمامنا “ميدان الفضائل”، الّذي دعانا المرنّم في صلاة السّحر إلى دخوله “متمنطقين بجهاد الصّوم الحسن”. في الوقت نفسه، نتذكّر في قراءة سنكسار اليوم طرد آدم من الفردوس، كما نتعلّم من الإنجيل طريقة الصّوم الحقيقيّ.
فلكي ينطلق المرء في أيّ عمل صالح ومبارك، يحتاج إلى عزم ثابت شجاع. الصّوم هو سلاح رهيب بين يدي المسيحيّ المجاهد. إنّه السّكّينة “الباترة من القلب كلّ رذيلة”، كما سمعنا في تراتيل اليوم. بالصّوم يحظى الذّهن بالعافية والحرّيّة، وينقلب نظام السّقوط الّذي ساد بعد المعصية. فقبل السّقوط، كانت الشّركة مع نعمة الرّوح القدس غذاء النّفس ومتعتها، فيما استمتع الجسد بملذّات النّفس لارتباطه الطّبيعيّ بها. بعد السّقوط، عندما فقدت النّفس شركتها مع الرّوح القدس، تحوّلت نحو الجسد، وحاولت أن تجد فيه ما فقدته. هكذا، خضعت لسلطان اللّذّات الجسدانيّة، وبدأت تمتصّ الجسد بالمعنى الحرفيّ للكلمة، وتقوده من دون إرادته إلى الفساد والشّقاء.
إذًا، نحن نحاول بالصّوم أن نطلق حرّيّة النّفس، وأن نعتقها من روابط الجسد. نحاول أن نخضع حركات الجسد لسلطان العقل. وإذ يحرم الصّوم الجسد ما تعوّده هذا الأخير من المتع واللّذّات، يمنح النّفس قوّةً لتلتفت إلى الله في الصّلاة براحة وصفاء، دون تشتّت. كذلك الصّلاة والتّأمّل يعطيان الصّوم قيمةً روحيّة. في صحراء الحرمان، تعدّ مائدة الرّوح. طبعًا، الصّوم الحقيقيّ لا يقتصر على تجنّب بعض المآكل ببساطة، كما أنّه ليس مجرّد عمل خارجيّ، بل هو أعمق من ذلك. يجب أن يترافق الصّوم عن الطّعام مع صوم الحواسّ، إضافةً إلى صوم النّفس الدّاخليّ عن التّخيّلات والرّغبات والأفكار السّيّئة المفعمة بالأهواء، والانقطاع عن أعمال الظّلمة الّتي حدّثنا عنها بولس الرّسول في رسالة اليوم.
من قراءة إنجيل اليوم، نتبيّن ما للصّوم الحقيقيّ من شروط وميزات أساسيّة. فقبل أن يتحدّث المسيح عن طريقة الصّوم الحقيقيّ، وضع الأساس الّذي يخوّلنا أن نبني عليه كلّ عمل صالح. إنّه الغفران الواجب لزلّات الآخرين، الّذي هو شرط لغفران خطايانا نحن. قال الرّبّ: “إن غفرتم للنّاس زلاّتهم يغفر لكم أبوكم السّماويّ أيضًا”. لذلك يطلب الشّعب المؤمن الغفران ويهبه للآخرين في صلاة الغروب الخشوعيّة المسمّاة “صلاة الغفران”، الّتي تقام مساء اليوم الأحد، قبل بدء الصّوم، بهدف التّقدّم من جهاد الصّوم الحسن ونحن معتقون من رباط الظّلم. فإذا امتنعنا عن بعض المآكل، وما زلنا نجرح ونؤذي بعضنا بعضًا بالحقد وحفظ الإساءة والإدانة، يكون صومنا بلا قيمة. يصير في جوهره عملًا شيطانيًّا، يحاول أن يميت ضميرنا بفكرة أنّنا مشاركون في الجهاد، وتاليًا قد نجد نصيبًا مع الأتقياء. علينا إذًا أن نعبر بوّابة الصّوم الأربعينيّ المقدّس بروح التّوبة والتّواضع. هاتان الفضيلتان اللّتان تنموان بالصّوم، لا تتواجدان مع أفكار حفظ الإساءة والكراهيّة والكبرياء. الصّوم الحقيقيّ يرتبط بالتّواضع والرّأفة والغفران. هو الأرض الخصبة الّتي تعطي ثمر المحبّة الغنيّة.
وبما أنّه يجب ألّا نكون عبيدًا لآراء الآخرين، بل أن نكون أحرارًا من تأثيرات المحيط، يذكّرنا المسيح مرارًا بضرورة تطبيق أيّ وصيّة، كالصّلاة والإحسان، في الخفية. نصنع الفضائل ونصوم بعيدًا عن عيون النّاس. قال الرّبّ: “عندما تصومون لا تكونوا كالمرائين العابسين…”، فمثل هذا التّصرّف لا أجر له، لأنّ أولئك “استوفوا أجرهم. وأمّا أنت فمتى صمت، فادهن رأسك واغسل وجهك، لكي لا تظهر للنّاس صائمًا”. فإنّنا لا نحفظ وصايا الله لنتمجّد من النّاس، بل محبّةً بشخص المسيح، ولأنّ حفظها يوصلنا إلى الاتّحاد به.
إنّ التّفسيرات الّتي تعطى للآية: “إدهن رأسك، واغسل وجهك”، مهمّة جدًّا. فإلى جانب المعنى الظّاهر، الّذي هو تجنّب الصّائم أن يتباهى في إظهار ذاته، تحمل هذه الآية معنًى آخر أعمق. فالوجه الّذي يغسل هو القلب حينما يغتسل بدموع التّوبة، فيما الرّأس الّذي يدهن هو الذّهن حينما يجتذب، بالصّلاة، نعمة الرّوح القدس ورحمة الله. هذه الأعمال الدّاخليّة تحرق المراءاة والكبرياء من جذورها، وهي الّتي يراها الآب السّماويّ ويطمئنّ لها.
إنّ الإنسان الّذي يستهويه الجسد مقيّد بلذّاته. ومحبّة الجسد تقود إلى محبّة كلّ ما يهواه الجسد. لهذا، يسقط الإنسان من محبّة اللّذّة إلى حبّ القنية وحبّ الفضّة، مريدًا أن يقتني خيرات كثيرة. وبما أنّ الأمور المادّيّة كلّها تفسد وتشيخ وتزول، يتسلّط على هذا الإنسان القلق الدّائم. فكنوزه الأرضيّة معرّضة للسّوس والصّدأ واللّصوص. لذلك، على من ينطلق في جهاد الصّوم أن يتخلّى عن حبّ الفضّة “ويكنز كنوزًا في السّماء.”
عليه أن يرغب في الخيرات السّماويّة أكثر ممّا يطلب الأمور المادّيّة، وإلّا أصبح صومه بلا معنى، أو بات دليلًا واضحًا على حبّ الذّات، وقد يهدف مثل هذا الصّوم إلى جمال الجسد أو صحّته. فرغم أنّ أحدًا لا ينكر أهمّيّة هذين الأمرين، إلّا أنّ صومًا كهذا لن يقدّم للإنسان ما هو جوهريّ أكثر، وما يدوم أكثر. المسيحيّ يصوم محبّةً بالجسد الّذي يريده هيكلًا للرّوح القدس، ورغبةً في أن تغتني نفسه بكنوز السّماء.
لذلك يا أحبّة، على اللّبنانيّين أن يستغلّوا فترة الصّوم أوّلًا للصّلاة من أجل بلدهم الحبيب وإخوتهم المواطنين، وثانيًا من أجل أن يعتادوا على ضبط النّفس والحواس واللّسان تجاه الآخر الّذي يحمل رأيًا مختلفًا، مهما كان رأيه أو دينه أو انتماؤه. مشكلتنا، الّتي عبّر عنها إنجيل اليوم، أنّ البشر يتأثّرون برأي الزّعماء وأولياء النّعمة وينجرّون إلى الأحقاد والصّراعات والأنانيّات، وينسون أنّهم بذلك يستعبدون أنفسهم للمخلوق عوض الخالق. في كلّ بلدان العالم ثمّة أحزاب، إلّا أنّ فئات الشّعب لا تتصارع بسبب الانتماء الحزبيّ ولا تتقاتل وتهدّد بعضها بعضًا، بل نجد أعضاء الأحزاب والمرشّحين إلى الانتخابات يتناظرون بالعقل والمنطق، ويتنافسون على خدمة الشّعب، والشّعب يختار ما يناسبه، مستخدمًا المنطق والإرادة الحرّة والتّغييريّة في صناديق الاقتراع. في العالم الزّعماء يخشون الشّعب لا العكس، فلماذا لا يستغلّ شعبنا القوّة التّغييريّة، بدلاً من قوّة الجسد والتّجريح أو السّلاح؟! الوعي مطلوب من الشّعب، والخروج من الهاوية الّتي أوصلنا إليها ذوو السّلطة والمال لا يصير إلّا باتّحاد الشّعب حول فكرة وحيدة، هي فكرة الحفاظ على هذا البلد، وطنًا لكلّ أبنائه، وطنًا تحكمه القوانين وتسود فيه العدالة والمساواة، فلا تتحكّم فئة بأخرى، ولا تفرض جهة مفاهيمها على الآخرين، ولا تقدّم فئة ارتباطاتها على المصلحة العامّة، ولا تتعدّى أيّة فئة على سيادة الدّولة وتصادر قرارها أو تمنع عنها اتّخاذ القرارات. من هنا ضرورة وجود رؤية سياسيّة اقتصاديّة واضحة، تنطلق من المصلحة العامّة، وتطبّق دون استنسابيّة أو انتقائيّة، ولا تربط مصير لبنان واللّبنانيّين بأيّة مصلحة خارجيّة أو صراعات لا مصلحة لنا فيها.
وأخيرًا يا أحبّة، الصّوم بكلام الرّبّ إلى إشعياء النّبيّ: “أليس هذا صومًا أختاره: حلّ قيود الشّرّ، فكّ عقد النّير، وإطلاق المسحوقين أحرارًا، وقطع كلّ نير. أليس أن تكسر للجائع خبزك، وأن تدخل المساكين التّائهين إلى بيتك؟ إذا رأيت عريانًا أن تكسوه، وأن لا تتغاضى عن لحمك” (58: 6 و7). الصّوم يجب أن يكون مقرونًا بمحبّة القريب وأن يتضمّن سعيًا وراء البرّ الحقيقيّ (وراء القداسة). الإنسان هو الهدف الأوّل لكلّ عمل صالح، قبل الحجر وقبل أيّة فكرة مهما سمت.
بارككم الرّبّ، ورافقكم في مسيرتكم الجهاديّة نحو الفصح المجيد. دعاؤنا أن نشهد قيامة لبناننا بازغةً في الرّبيع المقبل، ببركة قيامة مسيحنا ومخلّصنا من الموت، آمين.”
هيئة الإذاعة والتلفزة البريطانية تبث تأملاً للبابا فرنسيس تحت عنوان “رجاء ولطف”
موقع الفاتيكان نيوز بثت هيئة الإذاعة والتلفزة البريطانية “بي بي سي” صباح اليوم…