يوحنّا العاشر: لبنان بالنّسبة لنا سفينة واحدة موحّدة لا تنجو ولا تبقى إلّا بتضافر جهود كلّ ركّابها
وجّه بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الأرثوذكس بعد انتهاء أعمال المجمع الأنطاكيّ المقدّس كلمة إلى لبنان دعا فيها إلى تضافر جهود كلّ أبنائه، من مختلف الأطياف، من أجل نهوضه، فقال:
“يسرّني أن أتوجّه إلى لبناننا الحبيب بعد انعقاد المجمع الأنطاكيّ الأرثوذكسيّ المقدّس، الاجتماع الّذي عالجنا فيه أمور الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة في المشرق وفي عالم الانتشار.
ولبنان يحتلّ منزلة خاصّة في قلب الكنيسة للدّور الثّقافيّ الكبير الّذي حقّقه والّذي هدّدته الأحداث الأخيرة وجعلته مرتعًا للفقر واليأس والانهيار في كلّ معلم من معالمه.
أتكلّم عن لبنان اليوم ونحن منه، أتكلّم من القلب، ومن الرّوحيّة الّتي يفرضها التّاريخ علينا وتتبعها كنيستنا.
أتكلّم عن لبنان، وللبنان فرادته. أتكلّم عنه كمحورٍ للشّرق. ونحن في هذا الشّرق أصيلون. نحن لسنا زوّارًا فيه. نحن من هذه الأرض، نحن دماؤها وعروقها. لا بل جبلنا دمنا بجداولها، وهي منّا هويذة وكينونة.
من موقعي كبطريرك الكنيسة الأرثوذكسيّة، أتوجّه إلى رعيّتي الحبيبة في لبنان، ولا يسعني إلّا أن أخاطب من خلالها كلّ لبنان.
إنّ الأرثوذكسيّة لا تعرف نفسها بكلّيّتها إلّا بالتّواصل مع الآخرِ، مع الشّقيق المسلم الّذي عشنا معه مواطنين نحترم إيمانه كما يحترم إيماننا وخطّطنا معًا للمستقبل البعيد بقوّة الإيمان وصفاء الرّؤيا.
نحن مكوّن رئيسيّ في هذا الشّرق. نعتمد المبادئ الأساسيّة للمواطنة ولا نخضع إلى تسميات الأكثريّة أو الأقلّيّة وذلك أنّ المبادئ ثابتةٌ أبدًا وليست خاضعة لتقلّبات الأفكار والمواقف.
لبنان بالنّسبة لنا سفينة واحدة موحّدة لا تنجو ولا تبقى إلّا بتضافر جهود كلّ ركّابها من كلّ الأطياف. وكركّاب قارب واحد فمصيرنا واحدٌ. وفي هذه المناسبة نعلي الصّوت من أجل الحفاظ على لبنان بلدًا للمواطنة والعيش الواحد.
ونناشد الدّول العربيّة الشّقيقة والمجتمع الدّوليّ العمل على صون استقرار هذا البلد ودعم مسيرة الإنقاذ فيه.
للبنان الحقّ الكامل في نفطه وفي سائر ثرواته الطّبيعيّة وللّبنانيّين جميعًا الحقّ أن يكون لهم ممثّلوهم الحقّ في النّدوة البرلمانيّة. نقدّر قرار الحكومة اللّبنانيّة الجديدة بإقامة الانتخابات النّيابيّة في موعدها وبالبدء بعمليّة الإصلاح الّتي ينتظرها اللّبنانيّون بشوق.
نحن نثق بشعب لبنان، ونعتبر أنّ لبنان هو أوّلاً وأخيرًا مسؤوليّة اللّبنانيّين، وبالأخصّ مسؤوليّة المسؤولين عنه سياسيًّا وإداريًّا واقتصاديًّا وماليًّا. نثق بقدرة اللّبنانيّين على حكم ذاتهم.
وما من حقّ أحدٍ آخر أن يتدخّل، أو أن يتحكّم فيما لا شأن له فيه. لقد اعتدنا في الشّرق ومنذ عهد القناصل في القرون السّابقة على تدخّل الأمم في شؤوننا الدّاخليّة لتأمين مصالحها الخاصّة على حساب وحدة شعوبنا ووحدة مؤسّساتنا ووحدة رؤيانا.
نريد للبناننا العزيز أن يكون دولة سيّدة حرّة مستقلّة فاعلة في مجتمعها العربيّ رائدةً في تطوّرها الثّقافيّ والحضاريّ لا منعزلةً عنه ولا منفردةً فيه. للبنان رسالةٌ في هذا الشّرق، وله كموقع للحوار والتّقارب، دورٌ مستمر في الحوار المسيحيّ الإسلاميّ الّذي انطلق في العصر الحديث كبادرةٍ أصيلةٍ في التّاريخ العالميّ الجديد، بادرةٍ نابعةٍ من الثّقة بالنّفس، من الأصالة في التّاريخ، ومن اليقظة الكبرى لدور العقل في إدارة شؤون المواطنين وتقديم الخدمات الّتي يستحقّها المواطن طبقًا لشرعة حقوق الإنسان الّتي أصبحت النّموذج الأمثل لنا في العالم العربيّ.
ولنا في تحقيق النّموذج الّذي يتوق إليه الشّباب اللّبنانيّ أن ندقّق في لبنان، أن نثير كلّ الأسئلة حوله، أن نعرّضه للنّقد الذّاتيّ وأن نكشف عن نقاط الضّعف فيه حتّى نعالجها. هنالك موضوعيّة جديدة في التّعاطي في الشّأن العامّ.
هنالك منهجيّات جديدة إن في السّياسة أو في الإدارة، أو في الاقتصاد أو في الأوضاع الماليّة، وبالأخصّ في الشّؤون الاجتماعيّة الّتي تستدعي الكثير من الجرأة ومن الجهد لننطلق من جديد من النّكبة الّتي وقعنا فيها في هذا المشرق إلى مسار التّاريخ الحديث الّذي يحدق بنا ويتحدّانا إلى الدّخول فيه وبروح الإنسانيّة الكبرى الّتي تجمعنا.
لبنان النّموذج في الأذهان يجب أن يكون المشروع الأوّل عند اللّبنانيّين لتثبيت ما هو أصيلٌ فيه ومفيد ولتقويم ما هو معوجّ. فلا مهرب من مراجعة النّفس ومن النّقد الإيجابيّ الذّاتيّ لنعرف ماذا وراء هذا الانهيار الكبير؟
ماذا وراء إشكال تأليف الحكومات؟
ماذا حدث للأولويّات حتّى أصبحت المصلحة الخاصّة طاغيةً على العامّة؟
ماذا حدث للقانون الخلقيّ الّذي يعلو على كلّ القوانين؟
ماذا عن القواعد الدّيمقراطيّة في بناء الدّولة الحديثة؟
وماذا ولماذا هذا التّخلّي الخطير عن دور لبنان في المنطقة وفي العالم؟
هذه بعض الأسئلة الّتي نثيرها ولا شكّ أنّ اللّبنانيّين أنفسهم سيواجهون هذه الأسئلة.
أنتهز المناسبة لأشدّد على المبادئ العشر في مقدّمة الدّستور. وهي المبادئ الأساسيّة الّتي ننطلق منها في النّقد الذّاتيّ الّذي ننشد. هذه مبادئُ أجمع عليها اللّبنانيّون في حوارات طويلة ومسارات صعبة في القرن المنصرم ولا تصحّ معالجة الأمور الطّارئة إلّا على أساس هذه المبادئ كوسائل عمل أكثر منها كلمات في خطابات ننطلق منها في كلّ خطوةٍ نخطوها. وأذكّر ههنا بالبند الأوّل:
“لبنان وطن سيّد حرّ مستقلّ، وطن نهائيّ لجميع أبنائه، واحدٌ أرضًا وشعبًا ومؤسّسات، في حدوده المنصوص عنها في هذا الدّستور والمعترف بها دوليًّا”. وليس هذا المبدأ أقلّ أهمّيّة من المبادئ التّسعة الأخرى، الّتي اعتبرها اللّبنانيّون أعمدة الهيكل اللّبنانيّ. ويجب أن تنشر هذه المبادئ وتُعلّم في كلّ المعاهد اللّبنانيّة لإعطائها الأولويّة في بناء الدّولة اللّبنانيّة الحديثة.
ونعني بالدّولة الدّولةَ الدّيمقراطيّة الوحدويّة المبنيّة على التّعدّديّة والوحدة في التّنوّع. وهي الأقوى والأفضل. وإن كنّا نحن الأرثوذكس طائفة فطائفتنا معروفة أنّها لا طائفيّة ونأسف أنّ نظرتنا لأنفسنا قد استهجنت واستثمرت سلبًا فقوبلنا بالإجحاف الكبير في تمثيلنا في الإدارات الرّسميّة.
نأمل، ونحن لم نزل في النّظام القائم، أن تعاد لنا حقوقنا إلى أن نصبح دولةً مدنيّة متطوّرة جدًّا كما عبّر عنها الشّباب اللّبنانيّ في ثورته الصّادقة والّتي، رغم غيابها عن السّاحة اللّبنانيّة، حاضرةٌ في ضمير كلّ لبنانيّ يريد الأمثل لهذا الوطن العزيز.
والآن وقد تألّفت الحكومة مع مخاضٍ طويل ومعيب أدّى إلى تدهور موقع لبنان في مصف الدّول وأصبح على شفير الهاوية، قد يكون المدخل إلى الحلّ هو الرّجوع إلى الذّات اللّبنانيّة ومحاسبتها على ضوء ما عرفناه في هذا المشرق من قيم سماويّة على أساس مبادئ عالميّة ثابتة في العدل والمساواة والخلق العالي.
فشرقنا هذا أكبر من مجرّد أرض. هو مهبط الرّسالات السّماويّة وأرض التّجسّد. ونحن كأنطاكيّين كنيسة التّجسّد وكنيسة الحضور الملموس والحيّ الّذي يسطع شهادةً حيّة ووجودًا فعّالاً يتخطّى مجرّد العدد والكمّ إلى الفرادة والدّور والرّسالة. نحن مع غيرنا مسؤولون أن ننفض عن الشّرق متحفيّة التّاريخ وغبار الأزمنة ومؤتمنون على رسالة فادينا وعلى حضوره عبرنا وفينا في الهياكل البشريّة لا في تلك الحجريّة وحسب.
في عصر النّبوّة حاسب الأنبياء الحكّام وقرعوهم لمساراتٍ خاطئة. أمّا اليوم وفي عهد الدّيمقراطيّات وحقوق الإنسان فكلّ فردٍ يحاسب ويردع من خلال مؤسّسات خاصّة وإعلامٍ حرّ. والرّبّ في يقيني سيفرح بنا عندما نهدم الحائط الّذي يفصل بين “الأنا والأنت” وبين “النّحن والأنتم”.
من يقرأ الكتاب المقدّس يجد أنّ لبنان كان دائمًا في ذهن الأنبياء، إن بالنّسبة لجمال أرضه أو لعظمة أرزه أو لصلابة شعبه. فلبنان هو الّذي تغنّى به الكتاب المقدّس أكثر من سبعين مرّة وبالأخصّ في سفر المزامير. وكأنّي بكاتب سفر المزامير قد وقف على قمّة جبل الأرز وأمامه وادي قنّوبين وادي القداسة. ولا غرو إن تغنّى به شعراؤه بأنّه “قطعة سما على الأرض” بمناخه المعتدل وبحرّه وأنهره وجباله وغاباته.
أختم مذكّرًا بأنّ أرضنا في هذا المشرق قد لامست أقدام الرّسل وعكست ومنذ ألفي عام صدى نشيد الملائكة مجدًا لله في علاه وسلامًا في أرضه ومسرّة في أنامه.”
ندوة توعية حول العنف القائم على النوع الاجتماعي في عكار برعاية كاريتاس وصندوق الأمم المتحدة للسكان
ندوة توعية حول العنف القائم على النوع الاجتماعي في عكار برعاية كاريتاس وصندوق الأمم المتحد…