يوليو 9, 2020

الإنجيل وعلامات الأزمنة

رحمة الله هَدَّأْتُ وَسَكَّتُّ نَفْسِي كَفَطِيمٍ نَحْوَ أُمِّهِ مزمور ١٣١، ٢

قراءة للإنجيل لكي نفهم الزمن الحاضر كما يعلمنا البابا فرنسيس وعلى خطى المجمع الفاتيكاني الثاني: إنه زمن الرحمة – يؤكد القديس يوحنا بولس الثاني – حتى وإن بدا أن إنسان اليوم يتصدى لهذه الكلمة

تصادف هذا العام الذكرى السنوية العشرين لإعلان قداسة الأخت فاوستينا كوفالسكا، رسولة الرحمة الإلهيّة والذكرى السنوية الأربعين على صدور الرسالة العامة “الغني بالمراحم” للبابا القديس يوحنا بولس الثاني الذي سار بشكل نبوي درب الرحمة كما يكتب في نص الرسالة العامة: “وإنّا عملاً بتعليم المجمع الفاتيكاني الثاني، وتقديراً منا لحاجات عصرنا قد خصصنا رسالتنا العامة التي عنوانها “فادي الإنسان” بحقيقة الإنسان التي انجلت لنا بملئها وعمقها في السيد المسيح. وتدعونا في هذه الأيام الشاقة العصيبة حاجة أخرى، ليست أقلّ شأناً من تلك، إلى اكتشاف وجه الآب مجدداً في المسيح، “الآب الرحيم وإله كل عزاء”… ولهذا يجدر بنا الآن أن نعالج هذا السر معالجة يحملنا عليها ما توفّر للكنيسة ولأناس عصرنا من تجارب واختيارات مختلفة يقتضيها ما تختلج به قلوب كثير من الناس من أمان وآلام وآمال وهموم وتطلّعات” (الغني بالمراحم، عدد ١). وفي هذه الرسالة أيضًا يطلق القديس يوحنا بولس الثاني نداء ملحًّا لكي تظهر الكنيسة بشكل أكبر رحمة الله التي تشكّل ضرورةً ماسّة للإنسان ولعالمنا المعاصر. إنهم بحاجة ماسة اليها حتى وإن كانوا غالبًا ما يجهلون ذلك. لأنَّ الذهنية المعاصرة، وربما أكثر ممّا كانت عليه الذهنيّة القديمة، تناهض إله الرحمة، وتميل الى إلغاء حتّى فكرة الرحمة من الحياة، ونزعها من القلب البشرّي. إذ يبدو أن كلمة ومفهوم الرحمة يزعجان الإنسان.

وعلى خطى المجمع الفاتيكاني الثاني وخطى اسلافه يؤكّد البابا فرنسيس بقوّة على أن هذا الزمن هو زمن الرحمة. إعلان نادى به بشغف ملأ بالفرح قلوب العديد من الأشخاص ولكنّه أيضًا ولّد في البعض داخل الكنيسة الشك والارتياب وحتى العداوة. فنجد أنفسنا بالتالي في الوضع عينه الذي وصفته الاناجيل لألفي سنة خلت: تصبح كلمة رحمة مجرّد كلمة “مشبعة بالمشاعر الصالحة” وإنما فارغة بالنسبة لمن يشعر بالحاجة إليها، وكلمة عدوّة لـ “عدالتنا” التي تعرف فقط أن تتّهم وتدين بالمُجمل فيما أن عدالة الله تخلّص. أما بالنسبة للبابا بندكتس السادس عشر الرحمة في الواقع هي نواة رسالة الإنجيل، إنها اسم الله عينه والوجه الذي من خلاله أظهر نفسه في العهد القديم وبشكل كامل في يسوع المسيح تجسُّد المحبة الخالقة والمخلّصة. يخبرنا الإنجيليون أن أوّل من عارض يسوع هم الكتبة والفريسيون الذين لم يكن باستطاعتهم تحمّل تصرفات الرب الرحيمة مع الخطأة، لقد كانوا يرون الله كمجرّد ديان يقاصص الخطأة وكانوا يتّهمون يسوع بأنه يخالف الشريعة ويجدّف وأن به شيطان. يمكننا أن نفهم غضبهم: كانوا يعتبرون أنفسهم صالحين وقد شعروا بالتالي بانتقاد شديد. لقد كانوا يعتقدون أنهم يدافعون عن الله، ولكنَّ الله أصلحهم بكلمات قاسية.

إن أقسى الكلمات في الكتاب المقدّس هي اللعنات السبعة التي يوجّهها يسوع للكتبة والفريسيين ونقرأ في إنجيل القديس متى: “الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون، فإِنَّكم تُقفِلونَ مَلكوتَ السَّمَواتِ في وُجوهِ النَّاس، فَلا أَنتُم تَدخُلون، ولا الَّذينَ يُريدونَ الدُّخولَ تَدَعونَهم يَدخُلون. الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون، فإِنَّكم تَجوبونَ البَحرَ والبَرَّ لِتَكسِبوا دَخيلاً واحِداً، فإِذا أَصبَحَ دَخيلاً، جَعلتُموه يَستَوجِبُ جَهَنَّمَ ضِعفَ ما أَنتُم تَستَحِقُّون… الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون فإِنَّكم تُؤَدُّونَ عُشْرَ النَّعْنَع والشُّمْرَةِ والكَمُّون، بَعدَما أَهمَلتُم أَهَمَّ ما في الشَّريعة: العَدلَ والرَّحمَةَ والأَمانة. فهذا ما كانَ يَجِبُ أَن تَعمَلوا بِه مِن دونِ أَن تُهمِلوا ذاك. الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون، فإِنَّكم تُطَهِّرونَ ظاهِرَ الكَأسِ والصَّحْن، وداخِلُهما مُمتَلِئٌ مِن حَصيلَةِ النَّهْبِ والطَّمَع. الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون، فإِنَّكم أَشبَهُ بِالقُبورِ المُكَلَّسَة، يَبدو ظاهِرُها جَميلاً، وأَمَّا داخِلُها فمُمتَلِئٌ من عِظامِ المَوتى وكُلِّ نَجاسَة. وكَذَلِك أَنتُم، تَبدونَ في ظاهِرِكُم لِلنَّاسِ أَبراراً، وأَمَّا باطِنُكُم فَمُمتَلِئٌ رِياءً وإِثماً… أَيُّها الحَيَّاتُ أَولادُ الأفاعي، كَيفَ لَكم أَن تَهرُبوا مِن عِقابِ جَهَنَّم؟ (متى ٢٣، ١٣- ٣٣). وعندما سأل الكتبة والفريسيون يسوع لماذا يخالف تلاميذه سُنَّةَ الشُّيوخ، أجابهم يسوع: “لِمَ تُخالِفونَ أَنتُم وَصِيَّةَ اللهِ مِن أَجلِ سُنَّتِكم؟ … لَقَد نَقَضتُم كلامَ اللهِ مِن أَجْلِ سُنَّتِكم. أَيُّها المُراؤُون، أَحسَنَ أَشَعْيا في نُبؤءتِه عَنكم إِذ قال: هذا الشَّعْبُ يُكرِمُني بِشَفَتَيْه وأَمَّا قَلبُه فبَعيدٌ مِنِّي. إِنَّهُم بالباطِلِ يَعبُدونَني فلَيسَ ما يُعلِّمونَ مِنَ المَذاهِب سِوى أَحكامٍ بَشَرِيَّة” (متى ١٥، ٣- ۹).

كذلك تثير فينا القلق كلمات يسوع التي سيقولها يومًا للذين يعتبرون أنفسهم مؤمنين: “لَيسَ مَن يَقولُ لي: يا ربّ، يا ربّ! يَدخُلُ مَلكوتَ السَّمَوات، بل مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات. فَسَوفَ يقولُ لي كثيرٌ منَ النَّاسِ في ذلكَ اليَوم: “يا ربّ، يا ربّ، أَما بِاسْمِكَ تَنبَّأْنا؟ وبِاسمِكَ طرَدْنا الشِّياطين؟ وباسْمِكَ أَتَيْنا بِالمُعْجِزاتِ الكثيرة؟” فأَقولُ لَهم عَلانِيةً: “ما عرَفْتُكُم قَطّ. إِلَيْكُم عَنِّي أَيُّها الأَثَمَة!” (متى ٧، ٢١- ٢٣). في ذلك الوقت كانت الشرائع الدينية كثيرة ومفصلّة لكي تمنح الأمان لمن يتبعها ولكنها كانت قد فقدت الجوهري، وعندما تذمّر الفريسيون على يسوع لأنّه يأكل من الخطأة والعشارين، قال لهم يسوع: ” لَيسَ الأصِحَّاءُ بِمُحتاجينَ إِلى طَبيب، بَلِ المَرْضى. فهَلاَّ تَتعلَّمونَ مَعْنى هذه الآية: “إِنَّما أُريدُ الرَّحمَةَ لا الذَّبيحَة”، فإِنِّي ما جِئتُ لأَدعُوَ الأَبْرارَ، بَلِ الخاطِئين” (متى ۹، ١٢- ١٣). لقد كان من عادة الفريسيين أن يطرحوا أسئلة على يسوع لكي يوقعوا به وأحيانًا ليمتحنوه وعندما سأله أحدهم ما هي الوَصِيَّةُ الكُبرى في الشَّريعة، أجابه يسوع بوضوح أنّ جوهر المسيحية هو المحبة: “أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ. تِلكَ هي الوَصِيَّةُ الكُبرى والأُولى. والثَّانِيَةُ مِثلُها: أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ. بِهاتَينِ الوَصِيَّتَينِ تَرتَبِطُ الشَّريعَةُ كُلُّها والأَنِبياء” (متى ٢٢، ٣٧- ٤٠).

نعرف جيّدًا أننا في النهاية سوف نُحاسب على الحب، ونعرف ايضًا أسئلة الامتحان في الدينونة الأخيرة: إنها أعمال الرحمة: “وإِذا جاءَ ابنُ الإِنسانِ في مَجْدِه، تُواكِبُه جَميعُ الملائِكة، يَجلِسُ على عَرشِ مَجدِه، وتُحشَرُ لَدَيهِ جَميعُ الأُمَم، فيَفصِلُ بَعضَهم عن بَعْضٍ، كما يَفصِلُ الرَّاعي الخِرافَ عنِ الجِداء. فيُقيمُ الخِرافَ عن يَمينِه والجِداءَ عن شِمالِه. ثُمَّ يَقولُ الملِكُ لِلَّذينَ عن يَمينِه: “تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم: لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني، وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ” (متى ٢٥، ٣١- ٣٦). إن التجربة التي نتعرّض لها على الدوام هي تجربة حبس يسوع في مخططاتنا ولكنّه يذهب أبعد منها كما يذكّرنا في مثل السامري الصالح: رجل يُعتبر غير طاهر يقوم بعمل محبّة بعكس الكاهن واللاوي اللذان رأيا الرجل المضروب والملقى على قارعة الطريق ولم يتدخّلا. أما السامري فقد أشفق عليه وتوقّف واعتنى به. إن حكم الله يختلف عن أحكامنا. وأسمى كلمات التقدير والاحترام وجّهها يسوع لشخصين يبدوان في الظاهر بعيدين ولكنّهما اقتربا منه لا لنفسيهما وإنما من أجل شفاء ابنة وخادم؛ قال يسوع للمرأة الكنعانيّة: “ما أَعظمَ إِيمانَكِ أَيَّتُها المَرأَة”، ولقائد المائة قال: “لَم أَجِدْ مِثلَ هذا الإِيمانِ في أَحَدٍ مِنَ إِسرائيل”. إن الحب يتخطّى جميع الحدود والتصنيفات.

لا أحد منا يحب بأن يُنعت بالفرّيسي، ولكن داخل كلُّ فرد منا هناك معلّم شريعة يحكم على القريب ويشعر بأنه أفضل من ذلك العشار كما يخبرنا المثل؛ نحن بحاجة لمن يُصلحنا وأحيانًا أيضًا بطريقة قاسية لكي نتحرر من قساوتنا، فيسوع يقول لنا جميعًا: “إِن لم يَزِدْ بِرُّكُم على بِرِّ الكَتَبَةِ والفِرِّيسيِّين، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّموات”. إن برّ يسوع هو تلك الرحمة التي يبلغ بها الأمر إلى محبّة الأعداء. برُّ يسوع هو الخلاص. يدعونا الرب في الإنجيل لكي نقرأ علامات الأزمنة لكي نعرف متى سيأتي. مع المجمع الفاتيكاني الثاني تابعت الكنيسة مسيرتها في فهم حقيقة رحمة الله، والبابا فرنسيس يتابع هذا المسيرة كما أشار إلينا القديس يوحنا بولس الثاني: “لا وجود لمصدر رجاء للجنس البشري خارج رحمة الله!”.

‫شاهد أيضًا‬

في خميس الأسرار…

تيلي لوميار – نورسات – مارلين صليبي هو خميس الأسرار المبارك الذي نتأمّل فيه كم…