يناير 31, 2022

عوده للمسؤولين: تعلّموا كيف تضحّون وتساوون أنفسكم بالمواطنين عندئذ ستصبحون مسؤولين حقيقيّين

عوده للمسؤولين تعلّموا كيف تضحّون وتساوون أنفسكم بالمواطنين عندئذ ستصبحون مسؤولين حقيقيّين

ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس، أقيمه خلاله جنّازًا لراحة نفس كاهن رعيّة القدّيس نيقولاوس الأرشمندريت ألكسي في الذّكرى الأولى لوفاته.

بعد الإنجيل المقدّس، كانت للمطران عوده عظة قال فيها:

“أحبّائي، تعيّد كنيستنا المقدّسة اليوم للقدّيسين رؤساء الكهنة المعظّمين: باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللّاهوتيّ ويوحنّا الذّهبيّ الفم. إنّ القدّيسين هم تأكيد الإنجيل ودليل الإيمان، لذلك هم “نور العالم”، إذ قد استناروا، فأناروا الجميع. القدّيسون المذكورون يدعون “الأقمار الثّلاثة”، أو “أقمار الألوهة المثلّثة الشّموس” لأنّ نور النّعمة الّذي سكن في نفوسهم شعّ في العالم، ولم يتمكّن من الاختفاء تحت مكيال الصّمت، ففاض كلمة تعليم، وجرى سيله في الكنيسة، فروّى شعبًا متعطّشًا إلى معرفة الله، فوضعت قلوبهم المشتعلة بالرّوح القدس على منارة الأسقفيّة. لقد عرفوا المسيح، وأحبّوه، ورغبوا في خلاص العالم كأنّه خلاصهم الشّخصيّ، لذلك انصرفوا إلى عملهم الرّعائيّ الضّخم بثبات وعزم.

القدّيسون، في كلّ العصور، هم أفواه الكلمة، يعبّرون عن مشيئة الله في كلّ زمن. لقد حفظ رؤساء الأساقفة الثّلاثة سفينة الكنيسة في المجرى الصّحيح، خلال منعطف تاريخيّ صعب. هذا النّجاح لم يأت نتيجة ذكائهم، ولا علمهم فقط. فما الذّكاء والعلم سوى أداتين في يد الإنسان، واستعمالهما يوضحهما إمّا نافعين أو مسيئين. إنّ ما نمّى في الأقمار الثّلاثة مواهبهم الطّبيعيّة وبلور ثقافتهم الهلّينيّة الواسعة، هو حياتهم الموافقة لمشيئة الله، والمجتذبة نور الله إلى نفوسهم. لم يكونوا فلاسفةً يطلقون نظريّات حول الله، بل كانوا لاهوتيّين بكلّ ما للكلمة من معنى. لقد تحدّثوا عمّا عاينوه، فأتى كلامهم نابعًا من خبرة. إنّ النّظر إلى القدّيسين كفلاسفة مفكّرين يدافعون عن تعليم الفلسفة الإنسانيّة يحطّ من قيمتهم. فتعليم رؤساء الأساقفة الثّلاثة، يتماهى وتعليم الكنيسة، ويهدف للارتقاء بالإنسان إلى استنارة الرّوح القدس. يرمي إلى جعل الإنسان إناءً للمعزّي، ومصباحًا ينشر نور الحقّ في العالم.

يظنّ كثيرون أنّ الأقمار الثّلاثة جلبوا إلى العالم آراءً جديدة، فجاء كلامهم امتدادًا للوعظ الرّسوليّ، وقرنوا المسيحيّة بالحضارة الهلّينيّة، فأضحوا مؤسّسي الحضارة المسيحيّة اليونانيّة، كحضارة جديدة في التّاريخ. إنّ الّذين يحملون هذا التّفكير، وفي نيّتهم أن يكرّموا القدّيسين، لكن وفق مقاييسهم الخاصّة، إنّما ينسبون إليهم، من حيث لا يدرون، صفات كبار الهراطقة الّذين بلبلوا كنيسة المسيح، ذلك أنّ الهراطقة قرنوا مناهج الفلسفة بالإيمان المسيحيّ، أو بالحريّ أخضعوا الإيمان لحكم المنطق. وفيما حاولوا أن يفهموا عقائد الكنيسة عبر مناهج الحكمة البشريّة، وقعوا في ضلالات كبيرة. كذلك ساورهم الاعتقاد الشّيطانيّ بأنّهم قادرون على إضافة تعليم جديد على ما أعلن يوم العنصرة، أو أنّهم يستطيعون قول ما يختلف عن تعليم الرّسل القدّيسين. هؤلاء يعتقدون بأنّ الكنيسة يمكنها أن تتطوّر في فهمها للحقيقة، كما لو أنّها لم تتسلّمها كاملةً في يوم العنصرة، وهذا ينافي الحقيقة، لأنّنا (رؤساء الكهنة) نتسلّم التّعليم الحقيقيّ، القويم، بالتّسلسل الرّسوليّ، وننقله للشّعب المؤمن دون زيادة أو نقصان.

من الدّلائل الكثيرة الّتي تظهر عظمة رؤساء الأساقفة الثّلاثة، أنّهم أطاعوا تقليد الرّسل القدّيسين، وتشبّهوا به، وصاروا هم أنفسهم ذلك التّقليد. لم يزيدوا أمورًا مخالفة، ولا حذفوا من التّقليد الشّريف شيئًا. إلى ذلك، فقد أخذوا التّساؤلات الّتي طرحتها الفلسفة اليونانيّة، وأعطوا منها إجابات مؤسّسةً على الحقيقة الّتي أعلنها المسيح. بهذا المعنى، يمكننا أن نتكلّم على إقران رؤساء الكهنة الثّلاثة للفلسفة اليونانيّة بالرّوح المسيحيّة. إنّ تعليم المسيح أتى إلى نفوسهم ليجيب على أعمق المطالب، وليروي عطشًا لم تقدر المعرفة البشريّة أن ترويه. هكذا، أصبحت كلمة الرّسل طريقة حياتهم، ومن غير أن يحلّوا النّاموس والأنبياء، قادوا فلسفة الإغريق إلى مخرج الإيمان بالمسيح، لأنّهم عرفوا المآزق الّتي وقعت فيها. لم يصوغوا إيمانًا جديدًا، إنّما أناروا طرقًا مظلمةً للفكر البشريّ بواسطة الإيمان غير المغشوش.

في ملكوت السّماوات، لن يتعظّم الّذين اكتفوا فقط بكرازة الإنجيل، أو إخراج الشّياطين، أو شفاء المرضى، بل الّذين أقرنوا ذلك بحفظ وصايا المسيح والعمل بها، وعلّموا النّاس إيمانهم المعاش. يقول الرّبّ: “أمّا من عمل وعلّم، فهذا يدعى عظيمًا في ملكوت السّماوات” (مت 5: 19). إذًا، قد يعطي الله موهبتي الوعظ وصنع العجائب لخدمة الشّعب وشفائه، من دون أن يخلّص بهما الموهوب، مثلما يحصل تمامًا في نعمة الكهنوت الأسراريّة. يشدّد المسيح لدى سامعيه على أنّ كثيرين سيقولون في يوم الدّينونة: “يا ربّ، يا ربّ، أليس باسمك تنبّأنا، وباسمك أخرجنا شياطين؟” عندئذ سيجيبهم هو: “إنّي لم أعرفكم قطّ، إذهبوا عنّي يا فاعلي الإثم” (مت 7: 22-23). الأقمار الثّلاثة، علّموا لأنّهم عملوا. نعرف من سيرهم أنّهم عبروا في الهدوئيّة والنّسك قبل أن يتسلّموا رعاية الشّعب. القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ نسك عدّة سنوات بقرب أحد الشّيوخ الرّهبان، كما عاش وحده في إحدى المغاور. والقدّيسان باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللّاهوتيّ عاشا فترةً في هدوء البنطس، متمرّسين على حفظ وتطبيق الوصايا الإلهيّة، يدرسان الكتب ويصلّيان. هكذا جاءت كلمتهم نتيجةً لخبرتهم، لذلك أثّرت في نفوس سامعيهم، ونقلت إليهم الحياة. سيرتهم سطعت أشدّ لمعانًا من كلامهم، فكانوا عظماء عند الله والنّاس.

اللّافت في سيرة الأقمار الثّلاثة أنّ لكلّ منهم عيدًا خاصًّا به، ومع ذلك نعيّد لهم اليوم مجموعين معًا. لماذا؟ لقد انقسم النّاس في الكنيسة إلى مجموعات، كلّ منها تقول إنّ أحد رؤساء الكهنة الثّلاثة هو أهمّ من الإثنين الآخرين. ولأنّ التّحزّب مرفوض في الكنيسة، ظهر الثّلاثة معًا، واقفين في مستوى واحد، ليقولوا إنّ أحدًا منهم لا يتقدّم على الآخرين.

يذكّرنا هذا الأمر بموقف الرّسول بولس القائل: “إنّ كلّ واحد منكم يقول: أنا لبولس وأنا لأبلّس وأنا لصفا وأنا للمسيح. هل انقسم المسيح؟ ألعلّ بولس صلب من أجلكم؟ أم باسم بولس اعتمدتم؟” (1كو 2: 12-13). الكنيسة، منذ نشأتها، تقف ضدّ التّحزّب، فعلينا اليوم، أكثر من أيّ يوم مضى، أن نتعلّم في هذا البلد الحبيب من خبرة الكنيسة ونتّعظ. فلماذا يتقاتل الإخوة أبناء الوطن الواحد؟ من أجل من؟ هل أيّ من زعماء هذه الأرض قدّم نفسه ذبيحةً خلاصيّة؟ وإذا كان كذلك فلماذا لم يخلص بلدنا وشعبه بعد؟ إنّه لأمر مستغرب ومستهجن جدًّا، مجبول بألم شديد، أن نسمع يوميًّا مسؤولين يتكلّمون ويدافعون بحماس كبير لا حدّ له عن أوضاع بلادي وإنسان بلادي المذلول. لكنّهم يكتفون بالكلام وكأنّي بهم، كما يقول النّبيّ، “لهم أفواه ولا تتكلّم، لهم أعين ولا تبصر، لهم آذان ولا تسمع” (مز115: 5 – 7).

أيّ زعيم يعمل بما يعلّم؟ ألا يخرجون جميعًا، كلّ يوم، برأي مغاير عمّا تفوّهوا به قبلًا؟ ألا تناقض أعمالهم وتصرّفاتهم ما ينادون به ويبشّرون؟ فلماذا إذًا ينقسم الشّعب ساعيًا وراء أناس لا يهتمّون إلّا بمصالحهم ومراكزهم وارتباطاتهم وجيوبهم، غير آبهين بتأوّهات الشّعب وبما يثقل كاهل المواطن.  

في الأسبوع المنصرم غطّى الثّلج جبال لبنان وقراه. وعوض أن يكون هطول المطر والثّلج نعمةً في بلد يشكو الجفاف وقلّة المياه، جاء نقمةً على اللّبنانيّين العاجزين عن تأمين الطّعام والدّواء، المفتقرين إلى وسائل التّدفئة والوقاية من موجات الصّقيع وتدنّي الحرارة على السّاحل، فكيف بالمرتفعات، مع انقطاع الكهرباء وغلاء المحروقات، وغياب الدّولة عن المساعدة. أمّا التّجّار وبعض فاقدي الضّمير فيستغلّون حاجة النّاس من أجل جني الأرباح دون أيّ عقاب.

هنا لا بدّ من تذكير الدّولة بواجباتها تجاه مواطنيها، وضرورة منع كلّ استغلال لهم. وبما أنّ مجلس الوزراء يناقش الموازنة، أملنا أن لا تستغلّ الدّولة أيضًا مواطنيها وتفرض عليهم الرّسوم والضّرائب فيما نحن نمرّ بأوقات عصيبة بالكاد يستطيع المواطن فيها تأمين بقائه على قيد الحياة.

إنّ زكّا العشّار، الّذي تحدّث عنه إنجيل اليوم، كان عبدًا للمال، الأمر الّذي جعله ظالمًا تجاه أخيه الإنسان. لكنّه، عندما تعرّف على الرّبّ، عندما لمس المسيح قلبه، أصبح إنسانًا جديدًا رحومًا ومعطاءً. قصّة زكّا هي قصّة توبة عميقة ورحمة من الله غزيرة. خلاص زكّا، بعد كلّ الخطايا الّتي ارتكبها، كان نتيجة وعيه لخطاياه وندمه وتوبته. أدرك ضعفه وكلّ المعوّقات الّتي تبعده عن الخلاص، فرماها وتعالى عليها وعلى ذاته، وطلب الرّبّ، فكان أن استجاب له وأتى إلى بيته. إنّها دعوتنا جميعًا، أن نعرف أنّ الله وحده هو مصدر الشّفاء من علل الجسد ومن أهواء النّفس، وهو واقف على أبواب قلوبنا، يقرع وينتظر الجواب. إرادتنا، حرّيّتنا هي الّتي تقودنا إليه أو تبعدنا عنه. يقول في سفر الرّؤيا: “من يسمع فليقل تعال، ومن يعطش فليأت، ومن يرد فليأخذ ماء حياة مجّانًا” (رؤ 22: 17).  

دعوتنا اليوم، إلى جميع المسؤولين، أن اعملوا مثل زكّا، تعرّفوا على الرّبّ، دعوه يعلّمكم كيف تحبّون، وكيف تعطفون على المساكين والأيتام والأرامل والفقراء والمرضى، كيف تضحّون من أجل الآخر وكيف تساوون أنفسكم بالمواطنين عوض التّكبّر عليهم واستعبادهم واستغلالهم، عندئذ ستفعلون عكس ما أنتم مرتكبون الآن، عندئذ ستصبحون مسؤولين حقيقيّين، آمين.”

‫شاهد أيضًا‬

في خميس الأسرار…

تيلي لوميار – نورسات – مارلين صليبي هو خميس الأسرار المبارك الذي نتأمّل فيه كم…